"مزرعة الحيوان" من الفلّاح الأول إلى الولد الطبيب

2022.03.29 | 06:39 دمشق

377a9f328db98b82b6401acbbf023a23.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أكثر من خمسين عامًا بدأت منظومة الاستبداد الأسديّ تترعرعُ وتنمو وتنسج تفاصيلها بدقّة وإحكام؛ لتكتسب الشرعيّة والقبول من المجتمع المحيط، ولتظهر تلك المنظومة للعالم كلّه أنّها الأفضل والأكثر قبولًا لدى الشعب؛ مع نهوض نظام البعث الجديد، والذي سيتبين لاحقًا أنه خدع حتى النظام نفسه، لم تكن عملية الحكم سوى تقاسم تركة المنصب الذي يستبيح بموجبه كل الشرائع والقوانين؛ فإن حصل أيّ خطأ في مقاس تلك المنظومة وبدت نافرةً عن رغبات الشعب وطموحاته، فمن الممكن تعديل هيئة الشعب من خلال نزع الأجزاء الفاسدة منه، أو بتر بعض الأطراف المستعصية التي ترفض الانصياع للقالب الذي أعدّ لها.

إنّ الدول ذات السيادة تدّعي أنّ من حقّها كجزء لا يتجزّأ من سيادتها؛ أن تبيد وتفني كلّ ما من شأنه أن يخلّ بسيادتها وأمنها ويضرّ بنسيجها الوطنيّ المتلاحم، حتّى وإن كانت تلك الإبادة بحقّ أفراد من الشعب، فالشعب من ممتلكاتها التي تستعملها داخل أسوار المزرعة، لا وقت لدى منظومة الاستبداد تهدره في الحوار مع الطرف الآخر لإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ خصوصًا إن ترافقت مطالب الإصلاح بضغوطاتٍ من الشعب، البتر والإبادة هما الأجدى في حالات الرفض والتمرّد، وقد يسهم أفرادٌ من الشعب نفسه في عمليّة الإبادة تلك لغاياتٍ ومآرب شخصيّة.

هذا النظام يصنّف جميع العناصر الموجودة في محيطه وفق علاقاتها به وخدمتها ودعمها لاستمرار وجوده وترسيخها لاستبداده

في زمن (الأب القائد) الذي كان من أحد ألقابه التي عجز السوريون عن حصرها (الفلّاح الأول) الذي كان ينظر إلى البلد على أنّها مزرعة خاصّة به وبعائلته؛ وقد صرّح مرة في أحد خطاباته المشهورة :" أنا فلاح وابن فلاح"، لذلك قام بتوريثها لابنه القاصر الذي كان دون السن القانوني للحكم؛ فاستُبيح الدستور العام للبلاد، وتم ليّه بدعمٍ ومباركةٍ من منظومة الاستبداد التي أحاط بها حكمه كما تحاط المزارع بأشجار طويلة وضخمة تصدّ الرياح والعواصف عن المزرعة، وتماشيًا مع تلك الصفة التي أقرّ الشعب له بها، قام الأب بمهمّة الفلّاح المجدّ أو البستانيّ الحريص الذي يتطلّع لنظام أفضل لمزرعته وإن كان مصطنعًا، وبغضّ النظر عن الخطّة العامة التي يتّبعها الفلّاح في تنظيم شؤون مزرعته، فإنّ نظام البستنة (الفلاحة) المصطنع يحتاج إلى أدوات وموادّ أوليّة، كما يحتاج إلى مقاومة الأخطار التي تهدّده وتعصف به، يبدأ ذلك من خلال تحديد ماهيّة الأشياء المفيدة والضّارة لمحاصيله، وهذا النظام يصنّف جميع العناصر الموجودة في محيطه وفق علاقاتها به وخدمتها ودعمها لاستمرار وجوده وترسيخها لاستبداده، لذلك فمن الطبيعيّ ألّا تكون تلك العناصر متساويةً في المكانة لديه، وهذا يعيدنا إلى إحدى المقولات الساخرة التي نهضت عليها رواية مزرعة الحيوان لـ (جورج أوريل) التي هجا فيها مؤلّفها بشكل ساخر الأنظمة الشموليّة وانحرافاتها السياسية: "جميع الحيوانات متساوية، لكن البعض متساوون أكثر من الآخرين".

لذلك كان منطقيًا أن يتعامل مع من تمرّدوا على نظامه المصطنع ذاك والذي ينهض على الاستبداد؛ بمنطق البستانيّ الذي يلجأ لنزع ما يراه ضارًا ومفسدًا لمحصوله، فوسم تمرّد الإخوان المسلمين في مدينة حماة بالمؤامرة، وأنّهم مجرد عملاء مرتهنين للخارج الطامع بخيرات مزرعته، وهو كنظام حاكم حريص على أمن مزرعته واستقلالها عن الطامعين بها، يقع على عاتقه مهمّة سحق المؤامرة وأدواتها، لذلك سارع إلى عمليّة عزقٍ سريعة وطارئة تعيد للمزرعة نسقها المألوف المنسجم والمتوازن، وقد أوكل تلك المهمّة لأخيه (رفعت الأسد) قائد سرايا الدفاع آنذاك، والذي أُشيع عنه أنّه قال: "سأزرع مدينة حماة بطاطا".

أتّم (الأب القائد) والفلاح الأوّل حراثة سوريا (مزرعته الخاصّة) وعزق الأعشاب الضارة منها؛ وجاء زمن ابنه الذي احتاج إلى أدوات مختلفة لحكم المزرعة والتعامل مع الأزمات التي قد تعصف بها، فكانت أدواته العلم؛ فأطلق مسيرة التحديث والتطوير للنظام الذي اعتمده والده في إدارة المزرعة والذي بات قديمًا وغير منسجمٍ مع العصر الحديث، ولم يكن العلم غاية في حدّ ذاته، بل كان في المقام الأول أداة تسمح لمن يمتلكها أن يكيّف الظروف والمخاطر المحتملة، لتبقى المزرعة محتفظة بكمالها واتّساقها وإن اختلفت أدواته عن أدوات والده بحكم تغيّر الزمن.

 يبدو أنّ (الأب القائد) قد غفل عن بعض الجذور والبذور التي بقيت كامنة في تربة المزرعة؛ لتخرج إلى الوجود وتنمو في عهد ابنه الذي تخلّى عن منطق البستنة الذي اعتمده والده فيما مضى في إدارته للمزرعة، واستعاض عنه بأدوات الطبيب ومنطقه في مواجهة أيّة تهديداتٍ محتملة للبلد (المزرعة)، اقتضت ضرورات المرحلة إطلاق تسميات وتصنيفات جديدة تجد الصدى والقبول لدى الخارج والداخل، فكان مصطلح الإرهاب حاضراً بقوّة والعالم بأسره منهمكٌ بمواجهته، وقد لعب الإعلام دورًا كبيرًا في تحقيق الهدف المنشود، فكلّ من أعلن الثورة على منظومة الاستبداد الأسديّة من السوريين هم إرهابيون وعملاء للخارج، ولم يعد منطق الفلاحة (البستنة) الذي تعامل فيه والده مع من تمرّدوا عليه قديمًا ينفع، ليتعامل بمنطق خاص به كطبيب وهو منطق الجراح الذي قد يضطر في علاجه للجسد المريض أن يبتر طرفًا منه لينقذ حياة المريض، ويحافظ على بنية الجسد؛ المجتمع المتجانس النظيف من الآفات والأمراض.

وقد شفع مواجهته للثورة التي وصفها إعلامه بالمؤامرة بخطاباتٍ كثيرة بعد فترة قصيرة من اندلاع الاحتجاجات المتمرّدة، وبماكينة إعلاميّة تسوّغ تدابيره التي اتّخذها في سبيل مواجهة المؤامرة والقضاء عليها، وبعد انطلاق الثورة السورية تغيّب الأسد الابن عن الظهور وتأخّر في إلقاء الخطاب (التاريخيّ) متعمّدًا ريثما تتضح الصورة؛ ليظهر في 30 من آذار من عام 2011 ويتحّدث وكأنّه في عالم آخر ويقول: "لا يمكن أن يُقدِم على الإصلاحات تحت الضغط" وقال أيضًا: "إذا أردتموها حربًا فلتكن حربًا".

وقد رأى كثيرون أنّ أقوال الأسد الابن وأفعاله لا تختلف كثيرًا عن "هتلر" الذي لم يسأم لغة الخطابة التي تفوح بالكراهية والاحتقار للآخر؛ فقد وصف اليهود بأنّهم بكتريا وجراثيم وآفات وطفيليّات مميتة، وكذلك فعل الأسد حين وصف المتظاهرين والثائرين بأنّهم "مجرمون" و"جراثيم".

تبدو سوريا اليوم أرضًا منزوعة من أهلها، مسحوبة الخيرات، لا تكفي مواردها لإطعام من ظلّوا متمسّكين بالحياة فيها والصمود في وجه (المؤامرة الكونيّة)

لذا فإنّ هذه الجراثيم لا ينفع معها إلّا التطهير؛ للوصول إلى سوريا النظيفة التي يقطنها مواطنون صالحون ومفيدون، وإن كان معظم الشعب السوري بعد أكثر من سنوات عشر ما يزال كذلك بنظره، فإنّ سوريا ما تزال بحاجة إلى منطق الطبيب المشفَع بفلسفة تتعالى على الحقائق وتنكرها، لتكون النتيجة التخلي عن الجراثيم ذات المنشأ الوطنيّ وطردها إلى بيئات وأوساط خارج سوريا، من خلال تلك المجازر الفظيعة التي ارتكبها النظام بحقّ السوريين للوصول إلى سوريا المفيدة والنظيفة وإلى مجتمعٍ متجانس ونظيف خالٍ من الآفات والأمراض، وبين منطق الأب الفلاح وأدواته ومنطق الابن الطبيب وأدواته أيضًا؛ تبدو سوريا اليوم أرضًا منزوعة من أهلها، مسحوبة الخيرات، لا تكفي مواردها لإطعام من ظلّوا متمسّكين بالحياة فيها والصمود في وجه (المؤامرة الكونيّة).

صحيح أن الفلاحة (البستنة) والطبّ شكلان متمايزان وظيفيًا، لكنّهما يؤدّيان المهمّة نفسها لدى الأب والابن؛ وهي فصل العناصر النافعة التي من حظّها أن تبقى وتزدهر (الموالين) عن العناصر الضارة التي ينبغي القضاء عليها واجتثاثها من فوق الأرض (المعارضين)، والوحيد الذي يقرّر ماهيّة النفع والضرّ ومن يستحقّ البقاء أو الفناء هو نظام مستبدّ لم يكن البلد لديه سوى مزرعة تبقى ملكيّتها بيده، أو يحرقها ويبيدها عن بكرة أبيها، وإن كان موالو هذا النظام قد أطلقوا منذ البداية شعارهم المتوعّد: "الأسد أو نحرق البلد" فإنّ (قائدهم الحكيم) قد تجاوز مطالبهم المتواضعة وحقّق لهم أكثر من ذلك، فقد أحرق البلد فعلًا وخرّبها وبقي متربّعًا على سدّة الخراب.