مرثية لمعرة النعمان

2019.12.27 | 20:34 دمشق

images_11.jpg
+A
حجم الخط
-A

ربما لم تكن مشكلة مدينة أبي العلاء المعري سوى أنها تقع على الطريق بين الشمال والجنوب، فمدينة الفلاسفة والتاريخ والشعر التي نشأت بها طبقات من الشعراء والنثار والكتاب، من رواد العلوم والفلسفة التائهون بين أنطاكيا وحلب ودمشق، كانت على الدوام مأوى وملجأ وملاذا بمناخها اللطيف وموقعها العظيم الذي يتوسط كبريات المدائن والحضارات بين حلب والساحل والجنوب الدمشقي، بين أفاميا وتدمر وبعلبك، لصيقة بحضارة إيبلا، ومرتبطة بشريان حياة مع الشهباء، شريان تنافسي انتهى حينما تسيدت الشهباء حلب المشهد في الإقليم الشمالي بتجارتها واقتصادها الضخم وقوتها العسكرية، بينما بقيت المعرة كعبة للزهاد والفلاسفة وشعراء الطرق المنسية.

تشتق كلمة المعرة من اللفظة السريانية مغرة، والتي تعني في العربية المغارة، ومثلها مثل آلاف المدن والقرى السورية تنتسب لفظاً لسرير الثقافة السريانية التي كانت تسود في الديار الشامية، وسابقة المعرة منتشرة في الشمال الغربي السوري ومثلها

لأن لكل من اسمه نصيب فقد كانت المعرة على الدوام قريبة قرب الجفن من العين لكل من أنطاكيا وحلب وحماة وحمص

عشرات الأسماء مثل: معر شورين ومعرشمارين ومعرشمشة، وأيضاً معرة الإخوان ومعرة الصين ومعرة ماتر ومعرة حرمة...أما اللاحقة، النعمان، فيقول المؤرخون بأنها تعود ربما للنعمان بن المنذر أو النعمان بن البشير.

وتسميها مصادر الأعراب أحياناً بمعرة حمص، لقربها من حمص وتابعيتها لمركز الجند فيها، حيث تتجاذب المدينة كثير من الأسماء لقيمتها وأهميتها ومحاولة الترب منها.

ولأن لكل من اسمه نصيب فقد كانت المعرة على الدوام قريبة قرب الجفن من العين لكل من أنطاكيا وحلب وحماة وحمص، وكانت واسطة العقد بين تلك الحواضر، و منها انطلق أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء في جولاته في عموم الديار الغربية لبلاد الشام فأدرك اللاذقية و أنطاكيا وحلب وأورفة، وإليها يعود نسبه، وإليها حج شعراء ومفكري العرب تكريما له في ذكرى مولده الألف، وعلى رأسهم طه حسين عميد الأدب العربي، ومؤلف كتابيه الشهيرين عن أبي العلاء المعري..اللذان زلزلا تصور الأدب عن الشعر وامتزاجه مع الفلسفة والفكر والإلحاد أحياناً.

كل ذلك كان في وعاء تلك المدينة العظيمة التي أسسها الأجداد على تلال ثلاثة، ورفعوا صرحها المعنوي قبل المادي، فزائر المدينة قبل 2011 لا يجد فيها صروحاً عظيمة، بالمقارنة مع كبريات المدن، بل يجد قيمة كبرى تتجسد في متحفها ومسجدها ومكتبتها، وضريح شاعرها الأكبر، وأحاديث الناس المترعة بالأمل والتمرد والرغبة في القيامة من جديد، وعليه كان فالمدينة كانت من أوائل المنتسبين للثورة السلمية ومن أوائل المدن التي استقلت بحكمها عن المركز الذي اعتبروه ظالماً وغير منصف بحقهم وحق أولادهم، ودفعت لقاء موقفها هذا الثمن.

تقول كتب التاريخ التي يذكر بها الكاتب الفرنسي أمين معلوف في كتابه (الحروب الصليبية كما يراها العرب) بأن الحملة الصليبية حاصرت معرة النعمان طويلاً وحينما سقطت المدينة دخل عليها جيش الفرنجة الذي لم يكن جيشاً نظامياً بقدر ما كان جيش مرتزقة ولصوص ومجرمين، غسلت أدمغتهم بسيول من الأكاذيب الدينية والوعود والأحلام، فكان واقعهم لا يشابه ما حصلوا عليه، وكانت المجاعة قد فتكت

تتعرض مدينة معرة النعمان لأبشع أنواع القصف والتهجير، تتناوب عليه الطائرات الروسية وطائرات النظام

بكل ما يؤكل في المدينة، فجاع الجنود والمرتزقة وبدؤوا بشي أطفال مدينة المعرة وأكلهم، وأكلوا الجثث المرمية، واغتصبوا من اغتصبوا، بعد أن أعملوا القتل والنهب نهجاً لهجومهم..

وكان كل ذنب معرة الفكر، معرة النعمان أنها واقعة على طريق أنطاكيا الذي يرتجي القدس، مهوى سيوف الحملة الفرنجية، فدفعت المدينة ثمناً لا ينسى.

في أيامنا، تتعرض مدينة معرة النعمان لأبشع أنواع القصف والتهجير، تتناوب عليه الطائرات الروسية وطائرات النظام، قصف جعل البيوت والقصور والمساجد تتسوى بالأرض، غبار لا طائل منه، وهمجية لا مبرر لها إلا عشق العنف وعبثية الحرب، وكان ذنب المدينة مجدداً أنها تقع على الطريق الذي يسمونه M5

المؤدي إلى حلب والشمال، ليثبت أهلها مجدداً صحة تسميتها السريانية، فهم عادوا للسكنى في المغر والمغارات في الجبال المحيطة هرباً من القصف المحموم، وتركها أهلها، في عهدة شفيع المدينة وكبيرها، أبو العلاء الذي قال يوماً..

رب لحد قد صار لحداً مراراً        ضاحك من تزاحم الأضداد

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب        فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض      إلا من هذه الأجساد..

كلمات مفتاحية