مرة أخرى.. في ضرورة ولادة صوت وطني

2020.06.07 | 00:04 دمشق

thwrt_alswryyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يمكن، عند التطرق لأي رؤية للحل السياسي في سوريا الذي يلبي مطالب الحد الأدنى من السوريين، تجاهل الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انفجار الثورة السورية، والتي يمكن تلخيصها بأن ما حدث في سوريا، إنما يكمن سببه الرئيس في التناقض الحاد بين قوى المجتمع وحاجاته الأساسية من جهة والسلطة القائمة وصيغة إدارتها للدولة والمجتمع من جهة أخرى. 

في الجوهر إذاً، هي: ثورة لكسر الحواجز التي أقامتها سلطة عائلة الأسد وملحقاتها في طريق نمو المجتمع وتطوره الطبيعي. 

وقد كان العامل الآخر المهم في فرض مسار الثورة وأدواتها واستمرارها واتساعها هو: بنية النظام، هذه البنية غير القادرة على مقاربة أي حلول إلا عبر القمع وإسكات السوريين بواسطة أدواتها العسكرية والأمنية؛ الأمر الذي دفع الصراع إلى حقل العنف، مغلقاً بذلك كل الإمكانات التي كانت متاحة أمام حل سياسي، قد كان يمكن أن يكون كفيلاً بتجنيب البلاد والعباد هذه المأساة التي حلت على سوريا.

والأدهى أن بعد ما يقارب عقداً كاملاً من هذا الصراع، وبعد كل دروسه وعِبَره ومآسيه، ما تزال السلطة والشغف بها هي العامل الأهم في قراءة الأطراف الفاعلة، فلا السلطة القائمة المستميتة للبقاء في سلطتها، ولا الساعون إلى السلطة، ولا المستميتون أيضاً لتسلّمها، يرون في سوريا غير مشروع سلطة ممكنة ومغرية ومكتنزة بالوعود، وهي بالتالي ليست السلطة بما هي إدارة البلاد وتنميتها وفق القانون والدستور، بل بوصفها ثروة، وتحكم، وسيطرة.

وفي ضوء هوس السلطة المدمر هذا، قد كان الدور الذي يفترض أن تلعبه النخب السورية -على اختلاف تسمياتها- هو: دور ضابط الصراع، ومنع انزلاق البلاد إلى الكارثة التي أودت بالدولة والمجتمع إلى نفق يصعب التكهن بنهايته وطريقة الخروج منه.

إن النخب السورية لم ترتق إلى المستوى الذي تحتاجه البلاد التي تتفجر فيها الثورة بعد عقود الطغيان والقمع

إن النخب السورية لم ترتق إلى المستوى الذي تحتاجه البلاد التي تتفجر فيها الثورة بعد عقود الطغيان والقمع. وعلى الرغم من أن هذه النخب قد سرقت تمثيل الحركة العفوية السياسي، وهي الحركة التي نهض بها شباب الثورة في البدايات، فإنها كانت عاجزة عن الفعل الفاعل بحكم بنيتها القاصرة؛ ولذلك فقد استحضرت -كما النظام- أدواتها التي لم تكن تناسب ما يحدث، وسارت على الطريق ذاته الذي سلكه النظام من قبلها، وبدلاً من أن تكون رافعة الثورة وناظمة حركتها، أصبحت قوتها المعطلة، لا بل إنها تطابقت -من حيث لا تدري- مع هدف النظام في إعادة المجتمع وقواه الساعية إلى التغيير إلى عقم الماضي وقوانينه؛ ولهذا فإنها لم تكتف بالإسهام في إجهاض الثورة وحسب، بل زجت المجتمع في حالة فشل سياسي.

أما اليوم فإن نتائج هذا الصراع تتجلى على أسوأ وجه، ما دام هذا الصراع لم يستدع الاحتلالات التي لا عد لها ولا حصر فحسب، وما دام لم يدمر البلاد ويستنزف شبابها ومواردها فقط، بل ها هو يتمدد ليبتلع كل ما فيها، وها هي السلطة القائمة تهب البلاد بما فيها من أجل ألا تفقد سلطتها، ضاربة عرض الحائط بمستقبل السوريين ومصيرهم، وها هم من يفترض أنهم نقيضها يضربون عرض الحائط أيضاً بمستقبل البلاد ومصيرها بارتهانهم لمصالح الخارج.

لقد أدى هذا السباق المحموم إلى استقواء الخارج بكل الأطراف من أجل التحكم بمعادلات القوة الإقليمية والدولية، واستقواء كل الأطراف بالخارج من أجل العبور إلى السلطة المشتهاة، وتجاهلوا جميعهم حقيقة أن الشرعية وحدها – التي مصدرها الشعب السوري–  هي ما يجب أن تكون بوابة السلطة، مما أدى إلى سيطرة أطراف خارجية على مفاصل الصراع كلها، وبالتالي التحكم بحلوله؛ أي باختصار: لم يعد لسوريي النظام ولا لسوريي المعارضة أي قدرة على فعل أي شيء في هذا الصراع؛ لأن الأمر كله قد أصبح في يد الأطراف الخارجية ذاتها، وقد تم تغييب السوريين الحاملين للمشروع الوطني وتسييد منهج واحد على واجهة الحدث السوري، هو: منهج نفي الآخر وإقصاؤه.

لا يمكن نقل سورية من حالة التفسخ والاحتراب إلى حالة النمو والتفاعل الفاعل نحو مواطنة خصبة إلا بإزاحة الواجهة السياسية

واليوم لا يمكن نقل سورية من حالة التفسخ والاحتراب إلى حالة النمو والتفاعل الفاعل نحو مواطنة خصبة إلا بإزاحة الواجهة السياسية، سواء أكانت في ضفة النظام أم في ضفة المعارضة، هذا الشرط الضروري غير الكافي لتفكيك البنية العميقة للنظام، وهو بكل حال لا يعني استبعاد كل القوى الموجودة فيه نهائياً، لكنه يعني بالتأكيد: إعادة هيكلة ما هو ممكن من قواه في إطار علاقة جديدة تزيح الصيغة المافياوية للسلطة، وتستبدل بها معادلة جديدة ركيزتها الأساس ومعيارها الأهم، هو: المواطنة الحقيقية لكل السوريين، ومرجعها الوحيد هو الأسس الدستورية والحقوقية والقانونية. لكن هذا لن يكون ممكناً قبل تلاقي السوريين حول طرف وطني يمثل فعلاً المصالح الوطنية السورية، ويعمل بدلالتها فقط.

ولهذا، إن حاجة السوريين لصوت وطني يوحدهم جميعاً، هي حاجة بالغة الضرورة، وقد تكون هي الحل الوحيد المتبقي، قبل أن يستيقظوا جميعاً على موت وطنهم، هذا الصوت الوطني الذي يجب أن يكون:

ممثلاً للسوريين فعلاً، وأن يتحمل مسؤولية إنقاذ ما تبقى من سوريا، وأن يدافع عن مصالح السوريين وطناً وشعباً.

إنه الصوت الذي لا يصنف السوريين بين داخل وخارج، ولا بين موالاة ومعارضة، ولا بين طوائف وقوميات ولا بين أي تصنيف من التصنيفات الأخرى.

إنه الصوت الذي يعلي الهوية السورية فوق كل الهويات الأخرى، وهو الصوت الذي يؤسس الدولة التي يكون معيارها كرامة المواطن وحقوقه، هذا المعيار الذي يجب أن تتحدد المعايير الأخرى منه وعليه.

وبناء عليه: إن لم يتمكن السوريون من خلق صوتهم الوطني الواضح، فسوف تضيع سوريا، وسينجو القتلة، وستطوى صفحة الجرائم التي ارتكبت بحق السوريين، وسوف تفخخ سوريا بالقهر الذي لا حدود له، هذا القهر نفسه الذي تسببت به عقود القمع والقتل والنهب والتدمير.

إن هذا ليس حلماً، وليس مستحيلاً، إنه الممكن القابل للتحقيق فيما لو كانت هناك إرادة حقيقية لتأسيسه والعمل عليه أولاً، وهو ليس حلماً، ولا مستحيلاً، فيما إذا كان هناك وعي حقيقي لأسباب تغييب هذا الصوت رغم مضي عقد على انفجار الثورة السورية.