مراحل هيمنة النظام على الحقل الديني وصولاً إلى إلغاء منصب المفتي

2021.11.24 | 05:14 دمشق

16221136961898333913.jpeg
+A
حجم الخط
-A

الجدل الذي أثاره قرار رئيس النظام بإلغاء منصب مفتي الجمهورية، تطرق لجوانب عدة بشأن دلالات ومؤشرات هذا القرار، وخاصة لجهة تهميش دور المرجعية الدينية، غير أن هذه التحليلات، ومعظمها قد يكون صحيحا، لم تركز على جانب مهم في هذه الخطوة، وهي أن إلغاء منصب المفتي كان مجرد حصيلة لسياسة ممنهجة مديدة استهدفت الهيمنة الكاملة على الحقل الديني على غرار مصادرة وتدجين المناصب والأدوار الأخرى في الحياة السياسية والمجتمعية خلال حكم الأسدين، الأب والابن.

والمفتي الذي يفترض أنه يقف على رأس المرجعية الدينية، ويحتفظ بقدر عال من الاستقلالية عن مؤسسات النظام الحاكم، كف منذ عقود عن تأدية هذا الدور، وتحول إلى مجرد صدى باهت لتوجهات النظام السياسية والدينية. والواقع أن هذا هو أيضا حال المؤسسات والهياكل والمراجع الأخرى، بما في ذلك حزب البعث الذي يفترض أنه حاكم، وهو في حقيقة الأمر مجرد واجهة حزبية لطغمة أمنية طائفية، كما هو المفتي مجرد واجهة دينية.

سوريا الأسد، بلد خال من المرجعيات المستقلة، فلا أحد يعمل لحسابه أو لحساب المجتمع، بل الكل يعملون لحساب النظام بالمعنى الضيق، وليس الدولة بمفهومها الأوسع

لقد عملت المنظومة الأمنية الأسدية على تفريغ جميع المؤسسات والمناصب من مضمونها، لتحل مكانها واجهات تحمل الاسم القديم فقط، ومضمونها الوحيد، أو الأبرز على الأقل، هو الطاعة العمياء للمنظومة الحاكمة. هذا حال نقابات العمال، والفلاحين، والشبيبة، والمرأة، والمحامين والمهندسين.. الخ وكذلك الأحزاب السياسية، بما فيها حزب البعث، البرلمان وجهاز القضاء. وأيضا الجامعات ومراكز البحث العلمي ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.. الخ.

سوريا الأسد، بلد خال من المرجعيات المستقلة، فلا أحد يعمل لحسابه أو لحساب المجتمع، بل الكل يعملون لحساب النظام بالمعنى الضيق، وليس الدولة بمفهومها الأوسع.

وإذا كان النظام استطاع بسهولة نسبيا ترويض النقابات والأحزاب والبرلمان باعتباره ممولها وراعيها، لاغياً دورها قبل عام 1970، حيث كانت تتمتع بقدر من الاستقلالية عن النظام الحاكم، بل وكثيرا ما تقود الحراك الشعبي ضده، فإن تعامله مع المرجعيات الدينية ظل حذرا، حتى إنه لم يحاول تأطيرها في مؤسسة واحدة، على غرار مؤسسة الأزهر في مصر، أو مجلس كبار العلماء في السعودية، ما سمح بالتالي لهذه المرجعيات بالتمتع بقدر من الاستقلالية التنظيمية والمالية، دون الحاجة إلى معونة الدولة، على غرار الهياكل الأخرى النقابية والتشريعية والإعلامية. وهذا الحال، أسهم من جهة أخرى في تشظي المرجعيات الدينية وتنافسها بتشجيع من النظام الذي كان يحابي بعضها على حساب الأخرى، ويدفعها للتنافس على نيل رضاه، مقابل بعض الامتيازات والتسهيلات، مع الحرص على إبعادها كليا عن الحقل السياسي، وصرف اهتمامها إلى العمل الدعوي والخيري، وهو ما أفقدها قدرا كبيرا من احترام المجتمع، خاصة في دمشق.

ومع حاجة النظام إلى غطاء ديني بعد تصادمه مع حركة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي وقمعه العنيف لهذا الحراك، عمل على تعويم بعض الشخصيات الصوفية الزاهدة في السلطة والطامحة لتوسيع مجال نشاطها الدعوي والمجتمعي، فوجد في الشيخ أحمد كفتارو رئيس مجمع أبو النور التعليمي الإسلامي، ضالته الذي رقاه إلى منصب مفتي الجمهورية في مواجهة الشيخ حسن حبنكة الميداني، قبل أن يدفع إلى الواجهة بالشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ويعطيه مساحة أكبر للحركة بما في ذلك برنامج أسبوعي على التلفزيون الرسمي. ومع وفاة حافظ الأسد عام 2000، تولى البوطي تأدية شعائر الجنازة، لكن مكانته بدأت بالتراجع مع سعي بشار الأسد للبحث عن وجوه جديدة في الوسط الديني حيث تواصل مع بعض الشخصيات الدمشقية مثل الشيخ أسامة الرفاعي المفتي الذي عينته المعارضة أخيرا بديلا عن حسون. وكان الرفاعي اضطر لمغادرة سوريا في الثمانينيات خلال حملة القمع ضد الإخوان فاستقر لبعض الوقت في السعودية قبل أن يتوسط له البوطي للعودة إلى البلاد، ويصبح خطيب جامع الرفاعي في دوار كفرسوسة والذي كان بناه والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي.

لكن النظام واصل مساعيه للتلاعب بالمجال الديني لجهة تعويم بعض الأسماء والتضييق على أخرى بهدف إثارة التنافس بينها على طاعة النظام والخضوع لشروطه، خاصة بعد التفجير الذي حدث قرب مجمع أمني بدمشق عام 2008 والذي حمل النظام مسؤوليته لجماعة "فتح الإسلام" الناشطة آنذاك في شمال لبنان، مفبركا اعترافا بثه على التلفزيون الرسمي لشخص قال إنه دبر العملية وأنه تلقى تعليمه في مجمع الفتح التابع للمفتي كفتارو، ليكون ذلك إيذانا بحملة من جانب النظام للدفع بوجوه جديدة بدعوى تحديث الخطاب الديني، فعمد إلى الاستعاضة عن وزير الأوقاف زياد الأيوبي، المقرب من كفتارو، بمحمد عبد الستار السيد مفتي طرطوس الذي كان دعا بتوجيه من مكتب الأمن القومي، إلى عودة سلطة الدولة إلى المجال الديني وتوحيد المناهج الدينية.

كما اتخذ النظام سلسلة إجراءات للسيطرة على المجال الديني مثل وضع المؤسسات التي تعلم الشريعة الإسلامية تحت تصرف وزارة الأوقاف، وكذلك الموظفون في المؤسسات الدينية حيث أُنيط بالوزارة صلاحية تعيينهم وتسريحهم، وكذلك تدريب الدعاة وخطباء المساجد، ليتضاعف عدد موظفي الوزارة مرات عدة، وهو ما مكنها من مواصلة سياسة الاحتواء والسيطرة هذه عبر إجراءات متوالية مثل الاستحواذ على العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية المستقلة، وإغلاق مركز الدراسات الإسلامية الذي أسسه الشيخ وعضو مجلس الشعب محمد حبش، ومنع إقامة رابطة لخريجي كلية الشريعة، فيما دعم محمد السيد الوزير الجديد للأوقاف انقلاباً ناجحاً داخل مجمّع كفتارو لجعله أكثر خضوعا للنظام، فضلا عن إجراءات أخرى مثل الحد من شعائر التديّن كإغلاق صالات الصلاة في المراكز التجارية، ومنع الملصقات الدينية الشعبية، وحظر النقاب في المدارس، ونقل أكثر من 1000 معلمة منقّبة إلى وظائف إدارية.

عمل النظام على التمكين أكثر للمؤسسات الرسمية التي يسيطر عليها، خاصة وزارة الأوقاف التي عمل على توسيع صلاحياتها

ومع اندلاع الاحتجاجات ضد النظام عام 2011، تباينت تفاعلات القوى والشخصيات الدينية مع هذه التطورات بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، وبرز تفاوت بين مواقف بعض المشايخ الحذرين في تأييد الاحتجاجات، وأنصارهم في الشارع الذين انخرط كثيرا منهم فيها، خاصة أن تلك الاحتجاجات اتخذت في بداياتها من المساجد منطلقا لها. وفيما وقفت شخصيات مثل البوطي والمفتي السابق حسون في صف النظام وخونوا المتظاهرين، لزم أنصار كفتارو الصمت، قبل أن يتحولوا إلى موالاة النظام تحت التهديد والابتزاز الذي تعرضوا له من جانب الأخير، بينما اندفع مشايخ الميدان وراء المتظاهرين، وكذلك أنصار الشيخ أسامة الرفاعي، خاصة بعد الاعتداء الجسدي على الرفاعي نفسه داخل مسجده من قبل عناصر الأمن في إحدى جمع الاحتجاجات. وكانت نتيجة ذلك التمكين لمعهد الفتح والاعتراف من جانب النظام بشهادته رسميا، بينما تم الاستيلاء على جامع الرفاعي وتغيير اسمه وتعيين أحد الدعاة من كلية الشريعة خطيبا له خلفا للشيخ الرفاعي.

وفي موازاة ذلك، عمل النظام على التمكين أكثر للمؤسسات الرسمية التي يسيطر عليها، خاصة وزارة الأوقاف التي عمل على توسيع صلاحياتها، فأصدر سلسلة مراسيم وتعليمات بإخضاع كل الكيانات الإسلامية الخاصة لسيطرة الوزارة التي منحها حق تعريف ما سماه رأس النظام "الإسلام الصحيح". وفي مايو/ أيار 2019، افتتح بشار الأسد مركزا إسلاميا حمل اسم "مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف" وأدلى بتصريحات حصر فيها التطرف والإرهاب، بالتيار "الوهابي"، وجماعة الإخوان المسلمين.

وفي الضفة الأخرى، نجحت الشخصيات المعارضة الهاربة من بطش النظام عام 2014 في تشكيل "المجلس الإسلامي السوري" في إسطنبول في تركيا، والذي ضم أسماء بارزة في الساحة الدينية السورية موزعة بين تركيا وبلدان الخليج والأردن ومناطق المعارضة في سوريا وأماكن أخرى، وهو ما شكل أول وأكبر تجمع مؤسسي إسلامي في سوريا، يضم 40 هيئة دينية داخل سوريا وخارجها، وهذه المرة بعيدا عن سلطة النظام.