مراجعة لكتاب تدمير وطن.. فصول الإقصاء التي مارسها البعث

2019.12.05 | 17:23 دمشق

35470977_262003791013036_6711113848583094272_o_003.jpg
+A
حجم الخط
-A

عبر خمسة فصول وتوطئة وخلاصة بنحو ثلاثمئة وعشرين صفحة حاول المستشرق والدبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام أن يثبت وجهة نظره حول ما جرى في سوريا حتى طباعة هذا الكتاب "تدمير وطن.. الحرب الأهلية في سوريا" عام ألفين وسبعة عشر باللغة الإنكليزية، قبل أن تتم ترجمته من قبل عدة مترجمين وتنشره دار جنى تامر للدراسات والنشر عام 2018.

سأحاول في هذه المراجعة الإضاءة على فصول الكتاب الخمسة، عبر جزأين، في هذا المقال سأتناول الفصل الأول والثاني

الفصل الأول

مختصر تاريخ البعث قبل الثورة السورية

يقول الكاتب إنه في هذا الفصل يحاول الإجابة عن التساؤل عن كيفية انزلاق سوريا إلى حرب دموية بصبغة طائفية بعد نصف قرن من حكم البعث العلماني، وفي الثنايات يتحدث الكاتب عن انقلاب الثامن من آذار الذي قاده الناصريون والبعثيون ضد الانفصاليين الذين قادوا الانفصال عن مصر، "كان الانقلاب لحظة مصيرية في تاريخ البعث السوري، ونقطة مصيرية بالنسبة لكيفية تكوين هيكلية نظام البعث في العقود التالية. ذلك أنه بعد الانقلاب ازداد عدد الضباط من أبناء الأقليات بشكل مطرد، على حساب الضباط السنة".

هنا يشير الباحث إلى أن تسعين بالمئة من الضباط الذين تم تعيينهم في تلك الفترة كانوا من الطائفة العلوية، وأن أغلب من تم تسريحهم من السنة، تحت تهمة أنهم انفصاليون، حيث تركت عمليات التصفية والتعيين عام 63 أثراً طويل الأمد، امتد حتى التسعينيات من القرن الماضي، إذ كان العدد الأكبر من الضباط ذوي الرتب العليا يعود إلى تلك المرحلة من التصفية والتعيين.

تصفية الضباط السنة

طبعاً انقلاب الثامن من آذار سبقه اللجنة العسكرية، التي تم تشكيلها من قبل ضباط سوريين ينتمون إلى الأقليات في مصر، أثناء الوحدة بين سوريا ومصر، اللجنة التي كانت تتألف من خمسة أعضاء ثلاثة منهم علويون هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ أسد، وعبد الكريم الجندي إسماعيلي، وسليم حاطوم الدرزي. الأسماء الثلاثة الأوائل هم من كانوا السبب في تحويل الجيش السوري إلى الشكل الذي بدا عليه حتى الآن، "ففي الأشهر الحاسمة، نجح الضباط الثلاثة في تصفية صفوف الجيش من ضباط منافسين برتب عليا، كانوا ينتمون إلى تنظيمات الناصريين والوحدويين المستقلين، ومعظمهم من السنة"، إلا أن الكاتب يستدرك ويقول إن التصفية بحق هؤلاء تمت بمعزل عن انتمائهم المذهبي!. وكي يدعم الكاتب هذه الفكرة يقول إن ضباط البعث من العلويين كانوا شديدي الإيمان بعلمانية الحزب، ولم يكن ممكناً أخذ اتهامهم بالطائفية مأخذ الجد.. بل أكثر من ذلك يقول الكاتب إنه عندما كانت حوافز بعض القادة البعثيين العلويين طائفية، فإن ما حركهم لم يكن التدين، بل مجرد الانتماء الأوسع إلى الجماعة العلوية في سوريا، إلا أن الكاتب عاد ليعترف أن التمييز قد وقع لاحقاً ضد السنة، عندما كانوا يلتحقون بالكليات العسكرية، ومراكز التأهيل العسكري الأخرى في سوريا. فيما أخذ أبناء الأقليات يتمتعون بامتيازات من الدولة وعلى عدة مستويات.

القائد السني لا يقود!

أما القادة السنة وحسب الكاتب فلم يكن لديهم حرية التصرف، لأن فريق عملهم الخاص كان من العلويين، "وببساطة فإن سلطة الضباط السنة على مرؤوسيهم كانت محدودة، طالما أن أي ضابط علوي في أية وحدة عسكرية كان قادراً على الطلب من العسكريين العلويين في وحدة أخرى يرأسها سني، عدم تنفيذ أوامر قائدهم السني، وسمح هذا أن يمتد نفوذ بعض الضباط العلويين إلى أبعد من وحداتهم المباشرة".

تصفيات بين ملوك الطوائف

بعد أن استقر الأمر للقادة الجدد إثر انقلاب الثامن من آذار ما لبثوا أن بدؤوا يتصرفون

عسكريو البعث كانوا يدركون تماماً أن الطائفية باتت تستخدم بشكل واسع لغايات عملية لكبار الضباط، وهكذا تعايشت جنباً إلى جنب رواية رسمية وهمية عن العلمانية، مع الواقع الطائفي المستنكر رسمياً

في البلد على طريقة ملوك الطوائف، كما سماهم منيف الرزاز في كتابه (التجربة المرة) فكل قائد عسكري سوري كان يضع يده على جزء من أجهزة الدولة السورية، ويتصرف فيها كما يشاء، كمشاع خاص، ثم ما لبث الرفاق أن بدؤوا بتصفية بعضهم.

أولى التصفيات كانت بحق الضابط محمد عمران الذي تم إبعاده من اللجنة العسكرية، حيث اتهمه زميلاه صلاح جديد وحافظ الأسد بتهمة التحريض الطائفي، "رغم أن جديد والأسد كانا مثل عمران يتكتلان شخصياً على دعم مناصريهما العلويين داخل الجيش".

يلفت الكاتب النظر إلى أن الحديث بالطائفية كان محرماً، "بالرغم من أن عسكريي البعث كانوا يدركون تماماً أن الطائفية باتت تستخدم بشكل واسع لغايات عملية لكبار الضباط، وهكذا تعايشت جنباً إلى جنب رواية رسمية وهمية عن العلمانية، مع الواقع الطائفي المستنكر رسمياً".

إقصاء الدروز

بعد إبعاد محمد عمران ونجاح انقلاب 1966 داخل حزب البعث ذاته، وتم فيه إبعاد مؤسسي حزب البعث، كميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، لم تمضِ فترة طويلة حتى تم إبعاد العضوين الأساسيين الدرزيين في اللجنة العسكرية، وهما حمد عبيد وسليم حاطوم، رغم أنهما شاركا في الانقلاب، ولكن بدل تكريمهم تم عدم إعادة انتخابهم في الحزب، ليتم اعتقال حاطوم فيما بعد بتهمة التحضير لانقلاب، ثم أطلق سراحُه فحاول أخذ وفد من الحكومة زار السويداء لحل مشكلة الدروز الضالعين في الانقلاب المزعوم، كرهائن إلى أن تُستجاب طلباته، ولكن الحكومة استطاعت تحرير الرهائن، وهرب حاطوم إلى الأردن، ثم عاد بعد نكسة حزيران، بعد عفوٍ كاذب صدر بحقه، حيث تم الغدر به وإعدامه.

التنافس بين جديد والأسد

لم يبقَ في الساحة السياسية السورية سوى صلاح جديد وحافظ الأسد، صلاح جديد كان قد استقال من المناصب العسكرية كرئيس للأركان عام 1965، واكتفى بمنصب "الأمين العام المساعد لحزب البعث"، وهنا ترك الجيش لحافظ الأسد الذي كان يهيئ الضباط الموالين له في صفوف الجيش. اختلف جديد والأسد حول عدد من القضايا المتعلقة بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية والقوات المسلحة، عام 1968 عقد مؤتمر لحزب البعث تم التصويت فيه على أطروحات جديد، كونه يملك الأغلبية في الحزب، إلا أن الأسد رفض هذه القرارات، كون الكلمة العليا له في الجيش، ومع هذه الخلافات دخلت سوريا في ازدواجية السلطة، وفي الأثناء تمت الإطاحة بالضابطين الإسماعيليين عبد الكريم الجندي وأحمد المير.

انقلاب حافظ الأسد

في تشرين الثاني عام 1970 انعقد مؤتمر استثنائي لحزب البعث، تم فيه تحميل وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس أركانه مصطفى طلاس مسؤولية الهزائم العسكرية التي مني بها الجيش في حزيران 67، وتم إعفاؤهما من منصبهما، إلا أن حافظ الذي كان أساساً مسيطراً على الجيش، رفض قرارات الحزب، وانقلب على جديد وأودعه السجن حتى مات فيه.

البعث ومبادئه

يقول الكاتب إن أغلب التحديات لنظام حافظ الأسد كانت تأتي من قلب الطائفة العلوية نفسها، لذلك اعتمد حافظ الأسد على الأشخاص الذين تربطه بهم قرابة من قريته، حيث تبوأ إخوته الخمسة مراكز قيادية في الدولة، ولم تمضِ سنوات من حكمه حتى كان الفساد داءً مستشرياً في كل مفاصل الدولة، وعليه لم يحقق نظام البعث أياً من مبادئه لا الاقتصادية ولا حتى الاجتماعية، بل كان يزيد الفقر في المجتمع، ويوسع الشرخ الاجتماعي بين الطوائف ومكونات الشعب السوري، وما ذلك إلا رغبة في السيطرة، وظل الوضع كذلك يتفاقم حتى بلغ الذروة مع اندلاع الثورة السورية عام 2011.

الفصل الثاني

هل كان تجنب الحرب ممكناً؟

يرى الكاتب أنه بناءً على تاريخ حزب البعث بنسخته السورية، فإن تجنب الحرب بعد انطلاق الثورة السورية لم يكن ممكناً، وزاد من الأمر تلقي المعارضة السورية للدعم السياسي والعسكري من دول بدأت تتدخل في الشأن الداخلي السوري.

يعتقد الدبلوماسي الهولندي أنه نتيجة تكريس السيطرة على أجهزة الجيش والمخابرات ودوائر الدولة الحساسة بيد فئة من العلويين، فإن أي محاولة من الفئات الأخرى لنزع سيطرة هذه الأقلية على السلطة، ستُحول هذا النزاع بالضرورة إلى حرب أهلية، كما جرى في بداية الثورة السورية، التي ما لبثت أن تحولت إلى حرب بالوكالة بين الدول، فلو لم تتلقَّ المعارضة الدعم الدولي، لكان تم الإجهاز عليها من قبل النظام في أشهرها الأولى، وبعدد أقل من الضحايا.

تطرف النظام أدى إلى تطرفٍ آخر

ما زاد الأمر تعقيداً- حسب الكاتب - هو ظهور قوى سياسية تحمل أجندة بعيدة عن أجندة الثورة السورية المطالبة بالحرية والعدل والمساواة، بل إن هذه القوى الإسلامية تحتقر الديمقراطية، ثم باتت هذه القوى تتحكم بمصير الثورة، كونهم الأكثر تنظيماً والأكثر قوة، "في وقت كانت فيه الوسيلة الوحيدة لقلب النظام هي استخدام قوة مضادة لقوته، لقد بدأت المظاهرات سلمية، ولكن القمع الدموي الذي تعرضت له، غذى وأجج القوة المضادة، وكان إفراط النظام في استخدام الأسلوب القمعي يعكس الشعار الذي دونه الموالون على جدران الشوارع إلى جانب شعارات أخرى (الأسد أو نحرق البلد)".

الإصلاحات وحدها تطيح بالنظام

هنا يرى الكاتب أن أي إصلاحات حقيقية كان من شأنها أن تطيح بالنظام، والنظام يعلم هذا الأمر لذلك لم يقدم عليها، والمعارضة حسب الكاتب كانت في البداية ستقبل على المدى المنظور على إصلاحات ملموسة تتيح لهم المشاركة بالسلطة، أضف إلى ذلك أن المعارضة قد تطالب بالعدالة والقصاص من كل من تلطخت يداه بجرائم ضد الإنسانية، قبل الثورة السورية وأثناءها منذ عام 2011، لذلك اكتفى النظام بشيء من التغييرات الشكلية التجميلية، والتي لا يمكن أن ترضي المعارضة، على المدى الطويل.

طائفية عرقلت التعددية

الطائفية لم تكن مطروحة في بدايات الثورة الأولى، فمطالب المتظاهرين كانت المزيد من الحريات، والقضاء على دكتاتورية سياسة الحزب الواحد، وتجنب المتظاهرون الشعارات الطائفية، "إن خلفية النظام البعثي الطائفية والمناطقية والعائلية

النظام لعب على الورق الطائفية من خلال تخويف العلويين، من أن خروج السلطة من أيديهم يعني تعرضهم للإبادة، وبذلك يدفعهم لتقديم كل الدعم غيرالمشروط له

والقبلية كانت مفتاحاً لاستمراريته، ولكن واجهته الطائفية العلوية كانت إحدى عوامل ضعفه المبطنة، وبدا للعموم أن العامل العلوي هو من عرقل تحول سوريا من نظام دكتاتوري إلى نظام أكثر تمثيلاً".

هل النظام حامٍ للعلويين؟!

المستشرق الهولندي يشير إلى أن النظام لعب على الورق الطائفية من خلال تخويف العلويين، من أن خروج السلطة من أيديهم يعني تعرضهم للإبادة، وبذلك يدفعهم لتقديم كل الدعم غير المشروط له، والنظام هنا -حسب الكاتب- ورط العلويين في النزاع، فالنظام ليس حامياً للعلويين، بل العكس تماماً، " تسبب نظام الأسد بجعلها مهددة على نحو خطير، فكل عنف وقمع ضلع به علويون من النظام زاد في ترسيخ حقد الرأي العام على العلويين، سواء كان هذا الحقد مبرراً أم لا".

إسقاط الشرعية عن بشار!

يعتقد الكاتب أن الدول الغربية التي أعلنت في شهور الثورة الأولى عدم شرعية بشار الأسد عطلت أية إمكانية للتوسط في الحوار بين النظام والمعارضة، ولم تخسر فقط قنوات التواصل المباشر مع النظام، بل أيضاً مراقبتها للوضع الداخلي السوري بشكل مباشر، عبر السفراء والقناصل، الذين وصفهم الكاتب بالـ العيون والآذان، وبالتالي لم يعد هناك وسيلة للتأثير على سلوك النظام القمعي وكبحه، على ما يرى الكاتب.

تجذر الهوية السورية

أما بخصوص سوريا الموحدة، فكل الطوائف تريدها كذلك من السنة إلى العلويين والمسيحيين والدروز وغيرهم، إلا أن كل فئة تظن أن الأخرى تريد التقسيم، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا وحدات حماية الشعب الكردية، "إذ لا يكتفي بحكم ذاتي لأكراد سوريا، بل يريد لهم حكماً سياسياً ذاتياً"، "كما أن إسرائيل تريد تفكيك سوريا لأن هذا يتوافق مع رؤيتها لشرق أوسط مقسم إلى كيانات أساسها الهويات العرقية والطائفية، لأنها بذلك تكون بحسب رأي إسرائيليين كثيرين مرتاحة كدولة يهودية".

الهوية السورية بعد سبعين سنة على الاستقلال عن فرنسا باتت متجذرة في وعي السوريين، ولم يستطع البعث أن يغير هذا الموضوع، رغم تلقينه للعقيدة القومية للسوريين منذ خمسين سنة، على أن الانتماء العربي أرفع من الانتماء السوري.