مذكرات ضابط منشق

2020.08.24 | 00:18 دمشق

00.jpg
+A
حجم الخط
-A

في غرفة أحد فنادق مدينة أنطاكيا التركية شعر نقيب الشرطة السوري بالأمان أخيراً. كان محمد عبد الله الفضلي قد عبر الحدود تهريباً للتو، بمسير جبلي وعر وشائك استمر خمس ساعات من ظهيرة يوم رمضاني قائظ في آب 2012. وكان أول ما فعله خلال الأسبوع التالي هو المبادرة إلى فتح المفكرة التي دوّن فيها مشاهداته أثناء عمله في قسم شرطة منطقة الرمل الجنوبي في اللاذقية، ويشرع بتنظيمها وإكمالها في كتاب سيصدر بعنوان «القيامة: انشقاق لأجل الحرية».

تمتد منطقة الرمل الجنوبي من نهاية الكورنيش الجنوبي وحتى قرية اليهودية. وتشرف كلها على البحر. وتتألف من أحد عشر حياً يقطن فيها حوالي 120 ألفاً من السكان حسب مصادر الشرطة وقتها، يتراوحون بين محدودي الدخل والفقراء المدقعين. معظمهم من الطائفة السنّية. يشكّل ذوو الأصول الإدلبية منهم حوالي 35-40%، والباقي من اللاذقية وأريافها، بالإضافة إلى قرابة 7 آلاف فلسطيني في مخيم. يسكنها القهر وتتراجع فيها الخدمات ويغرم أهلها بفريق «حطين» لكرة القدم.

باكراً وصلت المظاهرات إلى هنا، يوم الجمعة في 25 آذار 2011. «كنت في رمقي الأخير» كما يقول الفضلي، عندما أتت الثورة لتمنحه فرصة التحرر من المستنقع الذي كان قد دخله بملء إرادته، عندما تطوع في كلية الشرطة بعد تخرجه في كلية الحقوق بجامعة دمشق، هرباً من العمل خادماً في مزرعة ضابط الجيش الذي ينتظره في الخدمة الإلزامية، وكي لا يصبح محامياً يبحث عن وسيلة للنصب على موكليه. لكنه أخذ يغوص في الأوحال التي فرضها العمل في هذا السلك، ويعيش دوامة الكذب والنفاق المحيطة. حتى أتت «القيامة» التي انتشلته من كل هذا «مثل الانسلال من قبر أحكم إغلاقه».

منذ التحركات الأولى ساد الاضطراب قسم الرمل الجنوبي ومِن خلفه جهاز الشرطة ووزارة الداخلية ومِن ورائها النظام. الكل ينتظر الأوامر من «فوق»، ومن هو «فوق» ينتظر أوامر من هم «فوقه». ولا أحد لديه تصور أو إستراتيجية للتعامل مع الوضع. تأتي الأوامر متضاربة: «اطلعوا، لا تطلعوا»، حتى استقرت على الخروج إلى الشارع والبقاء بعيداً عن المتظاهرين كنوع من إثبات الوجود لا أكثر. ومنذ ذلك الوقت المبكر بدأ الشرخ بين ضباط وزارة الداخلية الذين اتسموا أصلاً بتنوع الانتماء الطائفي وانقسموا على أساسه في الغالب. كان عددهم حوالي 2100 عام 2010، حسب الكاتب، موزعين على مختلف القطاعات التابعة للوزارة؛ من الأمن السياسي إلى الجنائي إلى الأقسام والمناطق والنواحي، وصولاً إلى شرطة المرور. وكان انقسامهم عمودياً طال بعض كبار الضباط، كما سيتضح من مسيرة الانشقاقات اللاحقة.

01_3.jpg

«معتقلاً في وظيفته» سيراقب الكاتب ثورة الرمل الجنوبي وهي تتوسع. حاول المتظاهرون في البداية أن ينضموا إلى سواهم من باقي الأحياء ليجتمعوا في الساحة الرئيسية في الشيخ ضاهر، لكن الأجهزة الأمنية كانت قد استوعبت الصدمة وتقاسمت المهام؛ تمركز قناصو المخابرات الجوية على أسطح البنايات العالية بتكتم وسرية، تجهّز عناصر الأمن العسكري وأمن الدولة في المكان لقمع المتظاهرين، فيما تغلغل أفراد الأمن السياسي بين المحتجين لجمع المعلومات ومحاولة اعتقال القادة والمحرّكين. لكن ذلك حدث بتنسيق من أعلى دون معرفة أي مجموعة على الأرض بمهام المجموعة الأخرى ولا بخططها أو طريقة توزعها. ونتيجة لذلك اعتقل فرع الأمن العسكري عناصر من الأمن السياسي الذي فقد كذلك اثنين من منسوبيه برصاص المخابرات الجوية، فردّ باستهداف حاجز لهذا الجهاز وقتل عناصره.

انكفأت مظاهرات الرمل الجنوبي إلى داخل المنطقة، لكنها سيطرت عليها فنظّمت الخطابات والقصائد والمسرحيات الهزلية والرسومات والمناطيد المضيئة، وفي الوقت نفسه حملت أسلحة بسيطة منعت دخول أجهزة الأمن إليها. وفي منتصف آب بدأ اقتحامها بقيادة القوات الخاصة التي استخدمت الرشاشات المتوسطة والدبابات، ومشاركة قوات البحرية التي استخدمت المدافع، وعناصر المخابرات الذين تولوا القتل والاعتقال. في اليوم التالي انهارت المنطقة، وصدرت الأوامر لجميع سكانها بالخروج.

«وقفت أمام القسم أشاهد شعبي البسيط وهو يحمل أطفاله وحاجياته وينزح» في عملية لم يستر مرتكبوها الطابع الطائفي الذي تجلى في عباراتهم وفي الإذلال الذي دفع الدم إلى رأس النقيب فاصطدم أخيراً مع قائد الحملة العسكرية الذي اتهمه بممالأة «المخربين». بعد أيام سيُستدعى الفضلي إلى قسم الانضباط بقيادة الشرطة للتحقيق في دعوى رُفعت ضده إثر ذلك، وسيجري توقيفه لمدة قصيرة. لن تكون الطائفية بعيدة عن مقدِّم الشكوى وشهودها، وعن قرار البراءة منها بالمقابل، مما يبيّن الاستقطاب المشحون داخل الجهاز حينها.

 

02_2.jpg

 

لكن الحادثة لن تمرّ دون أن يوسم صاحبها في الوسط بأنه «خائن» ويصبح مشبوهاً ثابتاً لدى الأمن، ويُنقل إلى قسم الشاطئ الأزرق الذي يتولى أحياء ذات غالبية سكانية من العلويين، وتحوي أمكنة حساسة أهمها منتجع اللاذقية وفندق الميريديان ونادي الضباط ومنتجع روتانا ومنازل جميل الأسد وأولاده و«مسجده» الإمام المرتضى وفيلا رفعت الأسد التي تمركز فيها عناصر من كتيبة الأمن المركزي بعد معركة صغيرة كانت قد جرت مع بقايا رجال القائد السابق لسرايا الدفاع في عام 2003.

كانت الخدمة في هذا القسم تأديباً لضباط الشرطة الذين سيجدون أنفسهم عاجزين بين الغيلان. وكمثال على ذلك يروي النقيب أنه طُلِبَ منه، في أحد الأيام، إحضار حافظ منذر الأسد، حفيد جميل، بعد أن أطلق النار على أحد الأشخاص. كان حافظ شاباً صغيراً يثير المشكلات في اللاذقية دوماً، وحين يرتكب جريمة كبرى يقوم والده بتسليمه إلى أحد الفروع، من باب التهدئة، ثم يخرج خلال أيام. وحين صدر الأمر بتوقيفه هذه المرة كان في منتجع اللاذقية الذي لا تستطيع الشرطة دخوله إلا باستئذان مديره. حاول الفضلي التملص من أداء المهمة العسيرة إلا أن قائد الشرطة أصر قائلاً: «يا أخي مجرد تواجد، حتى تقول الناس لقد حضرت الشرطة». حين وصلت الدورية إلى باب المنتجع وجدت نظيرة لها من الأمن السياسي جاءت للسبب نفسه ولم يسمح لها المدير بالدخول، وسط ارتياح عناصرها الذين خافوا أن يطلق عليهم حافظ النار لو حاولوا اعتقاله فعلاً. وبعد دقائق سترد للنقيب محمد مكالمة من قائد الشرطة الذي أرسله يأمره بالعودة، فقد اتصل منذر الأسد بوزير الداخلية ووعده بأنه سيقوم بتأنيب ولده!!

كان الانشقاق صعباً وسط الرقابة الأمنية الشديدة، لكن بطاقة الشرطة سهّلت المهمة حتى وصل الفضلي إلى مناطق الثوار في الجبال. أخذ نفساً عميقاً شعر بكل ذرة من ذراته. لا خوف بعد اليوم ولا كوابيس. لا أمن سياسياً أو عسكرياً أو جوياً. لا سيدي ولا معلم ولا احترامي. طفق يشتم، بصوت عال، بشار ونظامه وأجهزة أمنه بكل أنواع الشتائم، مستفرغاً ما ابتلعه من نفاق وظيفي خلال السنين، فيما مَن حوله يضحكون لأعراض لوثة الحرية.