
كانت مدينة تدمر تغلق أبوابها ليلا للحماية من الغزو والوحوش المفترسة، إلا أنها سقطت تحت سيطرة تنظيم "داعش" بعد أن انسحبت منها قوات النظام السوري، وتعرضت بعض معالمها للدمار مثل معبد بل. تاريخيا لم يأت انهيار مملكة تدمر منذ ألفي عام على يد الغزاة، بل كان بسبب تدهور المناخ وانعكاسه على الأمن الغذائي هناك، والنقص الحاد المتزايد في الطعام.
تضم تدمر معالم تاريخية بارزة مثل معبد بعل، وقوس النصر، وقلعة فخر الدين المعني الثاني، كما تضم مواقع طبيعية هامة مثل نبع أفقة، الذي يُعرف شعبيًا بـ"حمام تدمر"، وهو نبع كبريتي قديم ساهم في ازدهار حضارات المدينة. تتميز تدمر بواحات النخيل وبساتين الزيتون، إلى جانب العديد من المواقع الطبيعية الجميلة الأخرى.
في هذه المدينة الموغلة في القدم، التي عرفت حضارات كثيرة وشعوباً أكثر، نشأ الشاعر حسن العايد. ألهمته هذه المدينة بسحرها وفرادتها، لينسج قصائده بين آثارها وشوارعها. لكن الأحداث الكبيرة التي عاشتها بعد 2011 أجبرته على مغادرة مدينته، حيث سيطر تنظيم "الدولة" على مدينة تدمر لأول مرة في أيار 2015، وبقيت في قبضته قرابة العام، إلى أن استعاد النظام سيطرته على المدينة في آذار 2016، ليستعيد التنظيم المدينة مجدداً في كانون الأول من ذلك العام، إلى أن استطاعت قوات النظام الاستيلاء عليها من جديد بشكلٍ نهائي في الثاني من آذار 2017.
حياة الشاعر حسن العايد في تدمر
حسن العايد، المعروف بأبي قتيبة، شاعر وحقوقي وُلد عام 1951 في تدمر. نشأ في أسرة متوسطة الحال، تمتزج حياتها بين الطابع البدوي والريفي بنفحات من تدمر. تلقى تعليمه في مدارس تدمر، ثم التحق بجامعة دمشق لدراسة الحقوق. عمل لفترة طويلة في شركة الفوسفات قبل أن يضطر لمغادرة المدينة بعد 2011. بدأ بكتابة الشعر في سن مبكرة، ونشرت أعماله الشعرية بعد أن وصل المرحلة الثانوية. من عام 2016 حتى 2019، كنت عضواً في المكتب التنفيذي لملتقى الأدباء والكتاب السوريين في تركيا، حيث كنت مسؤولاً عن المكتب المعني بالشعر الشعبي والثقافة الشعبية. خلال هذه الفترة، شاركت في العديد من الفعاليات الأدبية المميزة في مدن مثل غازي عنتاب، أورفا، مرسين، أنقرة، وإسطنبول قبل أن أغادر نهاية العام 2019 إلى السويد".
من أجمل القصائد التي كتبها والتي تعكس حنينه إلى تدمر:
يا كاوية قلبي كوي
ويالاوية ضلعي لوي
نشفتي ريقي بالجفا
ولو أشريك ما أرتوي
يسترجع موقع تلفزيون سوريا مع الشاعر حسن العايد ذكرياته عن المجتمع والشعر في تدمر، إضافة للأحداث التي مرت بها خلال الأعوام الماضية.
القرابة في تدمر.. إذا لم يكن "عمك فهو خالك"
"يقول العايد لموقع تلفزيون سوريا "تدمر مدينة تتكون أساسًا من مجموعة أسر وعائلات ذات أصول بدوية، استقرت فيها عبر مراحل زمنية متباعدة. يعود أصل هذه العائلات إلى منبتين رئيسيين: الجزيرة العربية والعراق. تتميز أسر تدمر وعائلاتها بترابط علاقاتهم الاجتماعية التي تقوم على المودة والمحبة والمسالمة والتعاون والتشارك في جميع جوانب الحياة، وعلى القرابة. ففي تدمر، إذا لم يكن الشخص عمك فهو خالك بالتأكيد. وتتمتع تدمر بعلاقات جيدة مع أبناء عشائر البادية، تربطهم علاقات تجارية واجتماعية متينة. تعتبر تدمر من أكبر المناطق التابعة لمحافظة حمص، وكانت على وشك أن تصبح محافظة مستقلة قبل اندلاع الثورة في سوريا".
ويضيف "في تدمر وُلدت، وفيها ترعرعت وتعلمت ووعيت، وفيها ولدت مسيرتي الشعرية، حيث وجدت دعمًا هائلًا من الأصدقاء، الذين شجعوني على كتابة الشعر. أخص بالذكر العاملين في المركز الثقافي بتدمر، الذين ساعدوني في تنظيم العديد من الأمسيات الشعرية في مختلف المراكز الثقافية في سوريا".
كانت تدمر تستضيف مهرجانًا يُعرف بمهرجان البادية، الذي كان يجذب الزوار من دول الخليج والأجانب. يمتد المهرجان أسبوعًا، ويشمل سباقات جمال الخيل، وغناءً ليليًا، ومسرحيات، مما يجعله حدثًا بارزًا. كانت تدمر تستقبل الآلاف من الزوار خلال هذا المهرجان، حيث كانت الفنادق والمنازل تستوعبهم، كان ذلك قبل أن تعزف "الفرق الروسية" مقطوعاتها في المسرح الروماني.
تدمر وحيدة وسط الصحراء
"كانت لدينا تقاليد رائعة تقضي بإقامة السهرات الجميلة بين أطلال مدينة تدمر، وخاصة بالقرب من قوس النصر والمسرح الروماني. كنا نتوجه إلى الآثار ليلاً، حيث كانت العائلات تجتمع تحت ضوء القمر. كان الجو ليلاً عذبًا ونسماته عليلة، مما يضفى سحرًا خاصًا على تلك الأمسيات. كما كنا نزور البساتين المحيطة، مستمتعين بجمال الطبيعة وأجواء تدمر الساحرة." يقول العايد.
ويضيف "على الرغم من موقع تدمر الجغرافي المتميز إلا أنها وحيدة، لا يوجد بلدات أو قرى قريبة منها، يوجد فراغ كبير حول تدمر، ولمسافات شاسعة تصل لمئات الكيلومترات. التجمع السكاني الوحيد في هذا الفراغ هو بلدة السخنة، التي تبعد عن تدمر مسافة 70 كم باتجاه دير الزور، ومناجم الفوسفات تبعد 40 كم وخنيفيس 70 كم وغربي تدمر بحدود 40 كم التيفور إضافة إلى قرى صغيرة مثل آراك وغيرها. ولذلك تاريخياً كانت تدمر تغلق أبوابها ليلاً حمايةً من الغزو ومن الوحوش المفترسة، مما أسهم في تعزيز الترابط الاجتماعي بين سكانها، والذي كان وثيقاً لدرجة أنه إذا وقع أحدهم في مشكلة، مثل انهيار جدار في بستان، كان الجيران يجتمعون في نفس اليوم لإصلاحه. كما كانت العادات تشمل تبادل الأطعمة بين الجيران، ويتشاركون في تربية الماعز (تقديم المنيحة أي استثمار حليبها لعدد من الأيام)، وتقديم حليبها للجميع".
الشعر النبطي وياسين الفرجاني
يكتب العايد الشعر الشعبي والنبطي، وقد تأثر واستمع للكثير من الشعراء، لكنه لا يستطيع أن يحصر نفسه في شاعر واحد فقط، يقول "أكتب الشعر الشعبي والنبطي، وأسعى دائماً لأن أطور طريقتي الخاصة في الكتابة. الشعر بالنسبة لي هو وسيلة للتعبير عن الذات، وأطمح إلى أن أترك بصمتي الخاصة في هذا المجال. ومع ذلك تأثرت بشكل كبير ببعض الأساتذة الذين علموني وربوني في المدارس، كما تأثرت بشخصية بارزة من مدينة تدمر، وهو ياسين الفرجاني. كان ضابطاً في الجيش ومن بين العشرة ضباط الذين وقعوا اتفاقية الوحدة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. كان الفرجاني بجانب دوره العسكري شاعراً متميزاً وله العديد من الدواوين الشعرية. شعره يمتاز بكونه قريباً من الشعر الجاهلي، حيث يتمتع بقدرة فريدة على صياغة الشعر الجميل والمتميز".
تدمر في زمن الثورة
شاركت تدمر في الثورة السورية منذ بدايتها، عام 2011، وخرج شبابها للمطالبة بإسقاط النظام، لكنه كعادته استخدم العنف والحل الأمني لقمع حراكها، ولاحقا سحب قواته الأمنية، وحدثت مجزرة أطفال في المدينة، حيث أدخل قوات من خارجها لمواجهة المظاهرات وملاحقة الشباب الذين تحصنوا ببساتين تدمر وأقاموا هناك، وبدأوا بمواجهة النظام عسكريا من خلال "حرب عصابات ليلية"، واستمر ذلك حتى عام 2015 عندما دخل تنظيم "داعش".
يقول العايد "كنا منطقة بادية نائية بعيدة عن الأحداث. حتى منتصف عام 2015، حيث تحصنت مجموعة من الشباب الثائرين على النظام في بساتين تدمر ذات الشوارع الضيقة. وبعدها فوجئنا بحدوث معركة أو حرب شكلية، أشبه ما تكون بتمثيلية، بين تنظيم داعش والنظام. دخلت داعش إلى تدمر دون أي مقاومة تُذكر من النظام، رغم أن عدد أفراد التنظيم الذين قدموا حينها كان قليلاً جداً، يعد على الأصابع، وعدد أفراد النظام يزيد عن 10 آلاف عنصر من رجال الأمن والجيش والشرطة. كان في المدينة فرع بادية، وكتيبة، وسجن، وسرية شرطة عسكرية، وفوج هجانة، وأمن دولة، بالإضافة إلى فرع البادية الذي كان مقره في المدينة. وكانت هناك دلائل تشير إلى معرفة النظام المسبقة بدخول تنظيم داعش إلى تدمر. فقد تم إخلاء سجن تدمر قبل 15 يوماً من وصول التنظيم، وبدأ نقل محتويات متحف تدمر الأثري التاريخي قبل ذلك بأسابيع. هذه الإجراءات أثارت تساؤلات بين أبناء تدمر حول غياب النظام والقوات الأمنية التي كانت تحيط بالمدينة. يبدو أن تلك القوات كانت تستقوي فقط على المدنيين، مما زاد من الشكوك حول حقيقة ما جرى".
من تدمر إلى السويد.. ألف نخلة
بعد دخول تنظيم "داعش" إلى تدمر، عمت الفوضى والخوف، حيث ارتكبوا مجازر مروعة في الشوارع بعد أربعة أو خمسة أيام من دخولهم، هربت القوات النظامية إلى قاعدة التيفور (T4) غرب تدمر، وسمح لمن يرغب بمغادرة المدينة بالاتجاه نحو الرقة فقط. وفق العايد.
ويوضح "اتجهنا عبر طريق دير الزور - السخنة - المنصورة، ومن ثم إلى منبج حيث قضينا 17 يوماً وسط صراع بين داعش والجيش الحر".
"بعد ذلك، تمكننا من الوصول إلى الزربة جنوب حلب. ثم غادرنا سوريا. كانت رحلتنا شاقة ومضنية، فقد كنا مضطرين لمغادرة وطننا تحت ضغط الظروف القاسية. لم نكن نتوقع أن تستمر رحلتنا طويلاً، خاصةً أننا جلبنا معنا مفاتيح منازلنا على أمل العودة قريباً. لكن، مع مرور الوقت، لم نتمكن من العودة. واليوم، نحن في السويد، حيث استقرت حياتنا، ولكن ذكريات تلك الرحلة ومغادرة الوطن تظل معنا".
استثمر العايد مع زوجته مزرعة بمساحة 50 دونماً في تدمر، "وضعنا فيها كل طاقتنا وكل ما نملك. استصلحنا أرضاً كانت بوراً وبنينا فيها منزلاً نموذجياً، وزرعنا ألف نخلة، و600 زيتونة، ومئات الأشجار من الرمان. كانت المزرعة ملاذاً لنا، حيث استقبلنا الأصدقاء فيها. لكن للأسف، دُمرت المزرعة بالكامل، وكان ذلك بمثابة ضربة قاسية لنا. كان حلمنا أن نعيش فيها بسلام حتى نهاية عمرنا، ولكننا فقدنا كل شيء". وقال العايد واصفا تلك الأحداث:
همومي ثقيلة والمسافة طويله
ماشالها بالقاع داب(ن) ولاطير
أصرف عليها الوقت بالمستحيله
أحصد تعاسة بال وأجني تعاثير
من عقبكي يادار صبر(ن) جميله
وكلما نزلنا بقاع.. ذبح وتفاجير
(يادار) أسمع في حماكي عويله
من ظلم أشرار بروايح مجارير
قرامطة.. كانت بعوز وذليله
لا تنطر الأخلاق فيهم خنازير
وبحكمهم البلاد صارت فشيله
من بعد ماكانت محبّة وأزاهير
أيام.. قشره.. والسعادة عليلة
وللأهل والخلان بتنا مخاسير
ويارب يارحمن.. أنت الوسيله
تفرج عليناوأنت راعي التدابير
يتحدث العايد عن علاقة البيئة بتكوين الإنسان ويقول على علاقة تدمر بكتابته للشعر "تدمر، مدينة بادية الشام، تجمع بين الحياة البدوية والحضرية، مما يخلق مزيجاً اجتماعياً وثقافياً فريداً. هنا، تجد الربابة والقهوة المرة والضيافة التقليدية، إلى جانب العتابا والأبوذية والأغاني الشعبية، مما يرسخ حب الشعر في النفوس. ترعرعت في هذا الجو الثقافي الغني، حيث كان والدي رحمه الله من عشاق الشعر النبطي والشعبي والعتابا".
ويستطرد "بدعم من أصدقائي وأساتذتي، وجدت نفسي في عالم الشعر، وأصبحت شاعراً شعبياً ونبطياً. مثلت بلدي في مهرجان ثقافي بالأردن، وعشقت هذا النوع من الشعر الذي أكتب فيه بشغف. الشعر لا يرتبط بالزمان أو المكان، لكن الطبيعة قد تؤثر بشكل غير مباشر، مما يدفعك للكتابة دون وعي. يمكن أن يأتي الإلهام الشعري في أي لحظة، وغالباً ما أجد نفسي أكتب في الليل، حيث يسود الصفاء وسكون الليل، مما يثير مشاعري بشكل خاص. لقد حملت تدمر إلى كل مكان شاركت فيه بنشاط شعري، في المدن السورية، والمدن التركية، و إلى السويد".