مدينة لا شبيه لها: أنا ماري شيمل في إسطنبول

2019.07.05 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"لا أنوي السفر، لكن إذا توجب علي، سأسافر إلى إسطنبول"

أورهان والي

عاشت المستشرقة "أنا ماري شيمل" في تركيا بين عامي 1952 و1959، وتخص تركيا بجزء من سيرتها الذاتية الممتعة بترجمة رشيقة للدكتور عبد السلام حيدر، ونراها تتحدث بحب وشغف عن إسطنبول وتبدأ حديثها باقتباس أبيات من يونس إمره ومن أورهان والي، فقد تعرفت على إسطنبول من خلال الأشعار، وقطعت شوارع المدينة بعد ذلك.

في صحبة الشعراء ولقاء مع يحيى كمال

وصلت أنا ماري شيمل إلى إسطنبول بسفينة بخارية قادمة من نابولي في فبراير 1952، واستقبلها الشاعر "بهجت نجاتيجيل" وأوصلها إلى مبنى في لاليلي أصبح بعد ذلك فندق رمادا، استفادت أنا ماري من السيدة التي أجرتها الغرفة حيث زادت حصيلتها اللغوية في المفردات اليومية مثل معجون الأسنان ومظلة المطر.

هكذا كانت أسابيع ربيع عام 1952 في ذاكرة أنا ماري كربيع خالد، وسرعان ما اندمجت مع أجواء النقاشات الفكرية والأدبية في هذه المدينة. وإذا ما كتب مؤرخ عثماني في القرن السادس عشر في عصر سليمان القانوني أنه يوجد شاعر تحت كل حجر من أحجار شوارع إسطنبول، وإن لم يكن هذا دقيقاً على العصر الحديث، فإن أنا ماري كانت تقابل باستمرار فنانين جدداً، فقد كانت تجلس أيام الثلاثاء الشهيرة حيث كان شعراء إسطنبول يجلسون في مقهى ماجكه، وتستمع إلى النقاشات حول حججهم ضد الشعر  الكلاسيكي. وتذكر لنا رواد هذه الجلسة من المثقفين الأتراك مثل (ياسر نبي، صلاح بيرسل، خلدون تانير، والروائي كوجاغوز) وكانت تجازف بالمشاركة في هذه النقاشات وتدافع عن الشعر الكلاسيكي وتلقي أبياتاً ليحيى كمال، لكن الشباب المتحمس يردون عليها بأن هذه الغزليات شيء سهل، ولا بد أن نتألم، ولا يجوز الجلوس في أبراجنا العاجية لكي نكتب عن الشمس وعن الورود، بينما الناس من حولنا تعاني وتجوع. وقد تساءلت أنّا ماري: ألم يوجد أيضاً في عصر هوميروس أو في عصر شعراء الشرق الكبار مثل حافظ أناس جوعى يعانون؟ ولكن هذه البراهين كانت تُستبعد من الشعراء الشباب المتحمسين.

تحكي لنا أنا ماري كيف أصغت لشاعرها المحبب يحيى كمال دون أن تتنفس وهو يتحدث أمامها ويرشف كأساً من الويسكي ويتحدث عن التاريخ العثماني، وكانت قد قامت بترجمة قصيدته "رقص إسباني" التي نقل فيها أجواء رقص الفلامنكو الإسباني والحمرة البراقة للجونلات إلى اللغة التركية بعد عمله في السلك الدبلوماسي في أسبانيا، وكذلك قصيدته "موسيقى الثلوج" التي كتبها وهو سفير في وارسو، حيث يحكي عن حزن مساء شتوي.

وكتبت أنا ماري مقالات عن الثقافة الألمانية في المجلات التركية مثل مجلة "إسطنبول ديرجيزي"، وكانت توقعها

كانت أنا ماري تحب زيارة المساجد، وقد فتنت بمسجد السليمانية الذي يجلس كتاج على رأس المدينة

باسمها المستعار "جميلة كيراتلي"، وكانت تقابل الكثير من المثقفين في جاليري عديلة عودة في بيرا، وعندما كانت تنهي عملها في المكتبة كانت أنا ماري تجوب شوارع المدينة، فهي لا تملك إلا القليل جداً من المال، فكانت تتعرف على المدينة، وتصف لنا التعب الشديد بسبب أحجار رصف الطريق، وأرصفة المارة التي تبدو مثل سجادة مرتقة، لكنها تقول لنا أنها تمتعت بالشوارع المزدحمة بالناس والقطط.

في المساجد كانت لها أيام و"العرضحالجية" أمام يني جامع

كانت أنا ماري تحب زيارة المساجد، وقد فتنت بمسجد السليمانية الذي يجلس كتاج على رأس المدينة، وتصف لنا أنا ماري تفاصيل المسجد: تظل تبهرك النقوش والخط الذهبي الكبير الذي يتضمن آية الكرسي، وبالقرب من البازار والسوق المصري الذي لم تزره أنا ماري إلا مرة واحدة لأنها لم تتعلم المفاصلة قط. تزور جامع يني (المسجد الجديد) الذي يقع تحت رأس جسر جلطة، وتحكي لنا مشهدا عجيبا عن جلوس عدد وفير من "العرضحالجية" وهم كتبة يقف أمامهم بعض الرجال والنساء لملء الطلبات والاستمارات التي يحتاجها المرء للبيروقراطية المعقدة، أو لإملاء خطاب لأحد الأقرباء، وهو مشهد انتهى الآن في عصر التواصل الاجتماعي.

تشير أنا ماري إلى مسجد رستم باشا القريب من المسجد الجديد، وإلى أنه لا يوجد مسجد آخر فيه مثل هذه الزخرفة الغنية، لكن أجمل مساجد إسطنبول كان بالنسبة إليها مسجد ابنة السلطان سليمان زوجة رستم باشا جميلة ميرمه، والغريب أنها لم تستطع أن تتصادق مع آيا صوفيا، فربما يجب أن يرى المرء المكان في شكله القديم حيث كان يقف الراهب الملتحي أمام الناس في حفل عيد الفصح، أو فيما بعد والمكان يغص بالمؤمنين الورعين لصلاة عيد الفطر، أما أجمل جزء في آيا صوفيا فهو المكتبة وما تضمه من المخطوطات.

تعرفت أنا ماري على المتصوفة سميحة أويفردي. ومن خلال زيارتها لمنزلها في حي الفاتح تعرفت على الكثير عن التاريخ العثماني وتراث الخط والعمارة، لقد أعطت حلقة أبلة سميحة الصوفية وجهاً آخر لمدينة إسطنبول يكاد يكون مفقوداً في ضجيج المدينة الحديثة، وتأخذنا في جولة أشبه بالجولات السياحية من السلطان أحمد إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، كل ذلك مع ذكر أسماء المثقفين الأتراك الذين قابلتهم، وتنهي جولتها بأن "هناك الآلاف من الذكريات تمر مثل شريط سينمائي، ذكريات مرة وحلوة، ولكنها دائما تتلألأ على ضوء البوسفور".

كلية الإلهيات في أنقرة

وصل في الأول من نوفمبر عام 1954 اقتراح لأنا ماري شيمل بالعمل في كلية الإلهيات في أنقرة، وتصف لنا أجواء الدراسة في الكلية، وكيف كانت ردات فعل الطلاب عند تدريسهم الهندوسية حيث رفضوا الأديان الهندية بآلهتها ذات الأذرع الكثيرة، ووجدوا في نظام الطبقات معارضة شديدة مع القرآن وما فيه من تعاليم المساواة. وتحكي لنا كيف أن الطلبة المسلمين تميزوا بإجلال

كانت أنا ماري تتعلم فن الخط على ألب أرسلان الذي كان معيداً في قسم التاريخ الإسلامي

السيد المسيح ودائما ما كان يفاجئ أنا ماري إعجاب الشباب التركي بمارتن لوثر، وقد حاولت أن توضح للطلبة أن مارتن لوثر لم يكن محباً للإسلام ألم يكتب: "على كلمتك، ثبتنا يارب، ووجه موتا، للبابا والترك!".

كانت أنا ماري تتعلم فن الخط على ألب أرسلان الذي كان معيداً في قسم التاريخ الإسلامي، وتحكي لنا كيف قضت أول شهور عملها في أنقرة مع تخفيض قيمة الليرة، والذي يبدو أن التاريخ يعيد نفسه وتظل الليرة تنخفض، وأنها كانت في رعاية إحدى الأسر التركية، وبرغم تعرفها على بعض الشخصيات الألمانية المقيمة في تركيا إلا أن أنا ماري كانت تفضل قضاء الوقت مع الأتراك. وتحكي لنا عن بعض التعبيرات في اللغة التركية مثل "تسلم رجلك التي حملتك إلينا"، أو "تلبسه دائما في الفرح"، وغيرها من العادات التركية. وأثرت فيها العادة التي تتبع لدى خبر الموت أو ذكر أحد الموتى بقولهم العمر الطويل لك، فقد أبهجت تلك التعبيرات قلبها اللغوي، وتحكي لنا عن وجبة عاشوراء واحتفالات الختان. تكتب أنا ماري شيمل بعفوية وتحكي لنا عن جلساتها مع الجيران. زارتها إحداهن مرة ورأتها تكتب فقالت لها أنها سمعت خطيباً في المسجد مرة وهو يقول إن كل الشر يأتي فقط من الثرثرة مع الجارات.

في الخمسينيات، تلك الفترة التي عاشتها أنا ماري شيمل في تركيا، توضح لنا أنه يمكن للمرء أن يراقب عدم الأمان لدى نساء الطبقة الوسطى، فهن أصغر من أن يكن قد تربين تبعاً للأسلوب التقليدي، صغيرات عن أن يكن قد عاصرن الجهود العنيفة لحرب التحرر التركية، لقد كن مثل كائنات عالم بيْني، وتصف لنا كيف كانت الحالة الاقتصادية سيئة في تلك الفترة فلم تكن توجد قهوة، وكانت أنا ماري تذهب إلى المحل الصغير وتسأل البائع عن لبن فيقول البائع اللطيف بأسف "لبن يوك" أي "لا لبن"!

في هذه السنوات اهتمت الكاتبة بمحمد إقبال "الأب الروحي للباكستان"، ونشرت عام 1957 ترجمة شعرية ألمانية لملحمته الفارسية الكبيرة "جاويد نامه"، بل إن الأتراك طلبوا منها ترجمتها إلى اللغة التركية، وزارت أنا ماري شيمل تركيا بعد ذلك عدة مرات وفي عام 1996 منحتها تركيا وسام الفنون والعلوم، وحاول الرئيس سليمان ديميريل تثبيت الوسام على صدر أنا ماري لكنها لم تستطع تجنب التفكير في أن معنى اسمه "اليد الحديدية"، وفي الكتاب قصص شيقة عن علاقة أنا ماري شيمل بمدينة قونية ومولانا جلال الدين الرومي، كل ذلك بلغة عربية جميلة وسلاسة في الترجمة.

كلمات مفتاحية