مديرو سجن تدمر: فيصل غانم

2020.03.22 | 23:01 دمشق

61493061_574403386385084_8580931374179942400_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين غصّت فروع الأجهزة الأمنية عن استيعاب الأعداد المتزايدة من معتقلي جماعة الإخوان المسلمين، والمشتبه فيهم؛ قرر حافظ الأسد استخدام القسم الغربي من سجن تدمر العسكري لاحتجاز الموقوفين السياسيين. وسارع شقيقه رفعت إلى اختيار مدير موثوق جديد للسجن، بدلاً عن إبراهيم الصالح الذي كان ضابطاً موالياً مناسباً حين كان السجن يؤدي وظيفته الأساس في عقوبة المخالفين العسكريين مسلكياً فقط.

كان فيصل غانم ابن الطائفة. وهي الصفة المشتركة بين كل من تعاقبوا على إدارة هذا السجن الرهيب خلال أداء وظيفته السياسية حتى إنهائها في آب 2001، قبل أن يعاد استخدامه بعد الثورة. ورغم أن غانم لم يكن من ملاك الشرطة العسكرية المسؤولة عن إدارة السجن إلا أنه كان بالمستطاع ندبه بسهولة من الفرقة الخامسة، حيث كان يخدم برتبة رائد، إلى السجن الذي بدأ بفتح أبوابه للسياسيين، ومعظمهم من الإسلاميين، في أيار 1980.

لن يخيّب غانم ظن أبي دريد، فحين سيقرر الأخير الانتقام من الموقوفين على ذمة صراع السلطة مع الإخوان، إثر محاولة اغتيال شقيقه الرئيس، سيفتح له فيصل أبواب السجن ويكلّف عناصره بإرشاد جنود «القائد» من «سرايا الدفاع» إلى المهاجع المستهدفة بالتصفية ضمن الخريطة المعقدة لباحات تدمر، في المجزرة الشهيرة التي راح ضحيتها ما يقرب من ألف من السجناء العزّل.

ولد فيصل عام 1950. كانت عائلته في قرية بسنادا، الملاصقة للاذقية، تحفل بعدد من المشايخ العلويين. وهو ما لم يكن توجّه والده المدرّس التقدمي الذي غادر القرية، إثر خلاف مع أخيه الشيخ، ليستوطن قرية الهنّادي. سيشتهر الأستاذ محمد بدوره في النهضة التعليمية لعدد من قرى الساحل، فيما سيتداول كثير من ذوي المعتقلين في حلب ودمشق وحماة اسم الهنّادي وهم يبحثون عن طريقة لمعرفة أخبار أولادهم. فهناك يمكن أن تسأل عن منزل أم فيصل وتهديها أساور مجزية من الذهب لتحصل منها على ورقة صغيرة توصي فيها ابنها بتلبية طلبك. وعندها سيكون مشوارك القادم إلى السجن حيث سترى أطلال ولدك لمدة لا تتجاوز نصف ساعة، وأحياناً دقائق.

كان غانم يواظب على زيارة مهاجع معظم الدفعات الواصلة حديثاً إلى «سجنه»، يسبقه طاقم ينشرون الرعب ويوقفون المعتقلين إلى الجدران، مغمضي الأعين مطأطئي الرؤوس غالباً، فيما يتجول المدير بينهم ليسأل هذا عن اسمه وذاك عن عمله وآخر عن رتبته التنظيمية.

ولكن في يوم ما من 1983 حصل أمر غير مسبوق. فقد ساق عناصر الشرطة العسكرية المعتقلين إلى الساحة، وامتلأت الأسطح بجنود آخرين مسلحين، بانتظار قدوم المدير الذي كان بعضهم يراه لأول مرة، بملامح شقراء وعينين ملونتين ورثها عن أمه. ألقى على رعاياه محاضرة وطنية كان مغرماً بتكرارها في ما يبدو، ثم سألهم إن كانت لديهم شكاوى أو مطالب. كان السجناء يتعرضون لأصناف من الوحشية ألجمت ألسنتهم، غير أن بعضهم تجرأ، تحت الإلحاح المغري المتجدد من المدير، فاشتكى من نوعية الطعام، أو طالب بإدخال الأدوية، كما ناشد محكومون بالبراءة الإفراج عنهم، فيما أبدى آخرون رغبتهم في فتح باب الزيارة.

في اليوم التالي سيمرّ العناصر على المهاجع وسيدفع كل من تكلم ثمناً باهظاً. موضوع الزيارات وحده سيأخذ طريقه إلى الانفراج.

قبل ذلك كانت زيارة أي سجين تدمري أمراً في غاية الصعوبة. قيل إن الزيارات الخاصة النادرة التي جرت حصلت بموافقة شخصية من الأسد. حتى كبار ضباط المخابرات كانوا مضطرين إلى التحايل بإعادة طلب المعتقل للتحقيق، بدعوى ظهور مستجدات، وهناك، في «فروعهم»، كانوا يرتبون لقاء غير رسمي بعد الحصول على رشوة. بهذه الطريقة دخلت أموال وفيرة، مثلاً، إلى جيب المقدم غازي كنعان، رئيس فرع الأمن العسكري بحمص الذي يقع السجن في نطاقه، قبل أن يلتفت فيصل غانم إلى نهر الذهب هذا ويشرع في استثماره.

لم تكن المصوغات عملة التداول الوحيدة. فقد يحصل الزائرون على فرصة استثنائية للقاء مفقودهم في مكتب مدير السجن ذاته، بعيداً عن الشبك أو الغرفة الرثة للمساعد والعناصر المترقبين. مرة واحدة على الأقل كان ثمن الزيارة سيارة مرسيدس جديدة رُكِنت خارج السجن واستلم غانم مفتاحها داخله.

بالتدريج لعبت عينا المدير، الذي رقي إلى رتبة مقدم، إلى أبواب رزق أخرى من «خونة الوطن» هؤلاء. فذووهم، القادمون من بيئات مدينية غنية في كثير من الأحيان، يزودونهم بمبالغ كبيرة تغري بأن يقاسمهم إياها، وبكميات وافرة من الألبسة والأغذية سيصادر بعضها ويكلّف بعض مساعديه ببيعها لهم أنفسهم، بالتعاون مع سجناء قضائيين أخذوا أمكنتهم فطرياً في شبكة الخدمات هذه، المعروفة في السجون السورية باسم «الندوة»، التي تبيع الضروريات للمساجين بأضعاف سعرها الحقيقي. وهكذا ضمن غانم أن لا يتسرب قرش خارج منظومة فساده.

لم تدُم أيام الرخاء طويلاً. تقول أم فيصل إن أهالي السجناء «أصابوها بالعين»، وإنها فقدت لذلك ابناً شاباً بحادث سير، رغم كل ما قدمته لهم من مساعدة! لكن الضربة الحاسمة ستأتي من العاصمة حيث كان الصراع قد اشتد بين حافظ ورفعت، وانتهى بالإطاحة بالأخير وتقليم أذرعه الممتدة في أجهزة السلطة، وهو ما طال محسوبه مدير السجن، والذي أنهي ندبه وأعيد إلى الجيش في حزيران 1984.

سيواصل غانم حياة عسكرية غير ذات أهمية حتى تسريحه عام 2000 برتبة عقيد، وأثناء ذلك سيبني قصره في الهنّادي. سيتابع التردد إلى مدينة تدمر التي كوّن فيها علاقات بنيت حيناً على توريد المواد التموينية اللازمة للسجن وأحياناً على صحبة «الكاس» وحدها. في الحقيقة أتقن فيصل كيف يبدي وجهاً متواضعاً وودوداً خارج «عمله»، عندما لا يكون مشغولاً بتخريج أسماء قتلى التعذيب أو بتنظيم حفلات الإعدام التي كانت تجري مرتين أسبوعياً وحصدت أرواح الآلاف في عهده. ما أتاح له طلب يد امرأة تدمرية مطلّقة من ذويها الذين كان قد استأجر عندهم أثناء إدارته. كانت زوجته الأصلية لا تنجب وقد تطلّع إلى أن يكون له وريث. في الخامسة والخمسين تزوج الضابط المتقاعد مجدداً. وقبل أن يهنأ بمولودته فاجأته الجلطة بينما كان يشاهد خطاباً متلفزاً لحسن نصر الله، ويصرخ متفاعلاً بحماس زائد مع «سماحة السيد»!