مديرو سجن تدمر: غازي الجهني

2020.03.30 | 00:38 دمشق

01.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين أرسلت هذه الصورة إلى أحد المعتقلين الإسلاميين السابقين في السجن الصحراوي الرهيب أجابني أنه لا يستطيع التعرف إليها، مذكّراً بالنظام الذي كان مفروضاً هناك من إغماض العينين وطأطأة الرأس دوماً. وأردف ناصحاً بإرسالها إلى أحد السجناء الشيوعيين الذين كانوا «مدللين» حسب وصفه.

لم يتأخر رد صديقي الماركسي، معتذراً بأنه لا يمكنه تأكيد شيء كذلك، رغم أن الجهني زار مهجعهم مرة على الأقل. ولما أخبرته بما قاله السجين الإسلامي ضحك وكتب: «صحيح كنا «مدللين» بالقياس للإخوان، بس مو لدرجة أنه نرفع راسنا!!».

المتلصصون على الباحات من ثقوب خفية في الأبواب الحديدية للمهاجع تعرفوا إلى غازي الجهني. هم الذين شاهدوه يتحدث مع مساعد الانضباط (ضابط الأمن) ثم يشير له بكعب حذائه وهو يضرب به على الأرض. لم يفهم السجناء معنى هذه الحركة حتى بدأت، بعد أيام قليلة، أسوأ ثلاثة أشهر في حياتهم التدمرية، صيف 1989، عندما لم يعد يوم يخلو من قتيل تحت التعذيب، سواء في «التنفس» أو التفقد. أما الأذيات فصارت شائعة. في كتابه «من تدمر إلى هارفارد» يروي الدكتور براء السراج أن حصيلة يوم واحد «مشهود» وقتها كانت إصابة 74 من قاطني المهجع الذي كان فيه، البالغ عددهم 130، بكسور مختلفة خلال وجبتي التعذيب الصباحية والمسائية. اللافت أن أكثر ما استخدمه صف ضباط وعناصر الشرطة العسكرية لإيذاء المعتقلين أو الإجهاز عليهم، في هذه المرحلة، كان الدعس والرفس بالبوط، تماماً كما أشار المدير.

قبل ذلك بأعوام كان المقدم غازي الجهني قد أعلن للسجناء عن بدء عهده، في تشرين الأول 1984، بأن استدعى رؤساء المهاجع إلى الباحة الأولى وأمر بجلدهم بطريقة وحشية. في الليل وصل رعب السجناء إلى مستوى غير مسبوق وهم يسمعون أصوات التفقد الذي يجريه المدير الجديد على المحارس، متأكداً من انضباط المناوبين وجاهزية الأسلحة. في الصباح أخرج جميع المعتقلين إلى الباحات المختلفة ليعانوا حفلة تعذيب استمرت من الثامنة صباحاً حتى العاشرة ليلاً. كانت تلك طريقته في التعبير عن إدارته، الأطول والأسوأ في سجن تدمر، بعدما كانوا يحظون به من معاملة «رخوة» على حد تعبيره، في عهد سلفه فيصل غانم ونائبه المقدم بركات العش الذي أدار السجن لأشهر انتقالية قليلة بين المديرَين.

كان المعتقلون «ينعمون» بالاستماع إلى الإذاعة الرسمية من خلال المكبرات، وهو ما سيجري إيقافه، إلى درجة أن عموم السجناء لن يعرفوا بسقوط جدار برلين إلا بعد حدوثه بأربع سنوات

لم يكن الجهني مخطئاً بشكل كامل، فقد كان لديه بالفعل ما يضيفه بالحفر في قعر القاع الذي سبقه. فمثلاً كان المعتقلون «ينعمون» بالاستماع إلى الإذاعة الرسمية من خلال المكبرات، وهو ما سيجري إيقافه، إلى درجة أن عموم السجناء لن يعرفوا بسقوط جدار برلين إلا بعد حدوثه بأربع سنوات. كما كان بوسع الجهني أن يضيف منع الصيام إلى حظر الصلاة، وأن يأمر عناصره بمراقبة المساجين لمنعهم من التحايل على ذلك بادخار الطعام القليل إلى المساء، وإجبارهم على الأكل إن شكّوا في الأمر، ابتداء من عام 1987، بعدما عاد العقيد من سنة غابها لاتباع دورة الركن، وقام بمهامه فيها نائبه بركات العش مجدداً. وفي العام نفسه سيفرض الجهني على السجناء ارتداء الطماشة خلال التنقل وأثناء النوم. ويصير انزياحها عن عيني النائم سبباً كافياً ليقوم الحارس الليلي، المشرف على المهجع من فتحة في السقف تسمى «الشرّاقة»، بتمييز السجين بعلامة، ربما تكون لون ملابسه، لينال عقاباً مبرّحاً في الصباح التالي. وهو ما يُعرَف بنظام «التعليم».

ولد غازي عبد الله الجهني في بيئة قاسية حوالي 1950. ورّدت قريته العلوية، المسعودية في ناحية جب الجراح التابعة لمنطقة المخرّم بريف حمص الشرقي، متطوعين كثيرين للجيش. لكنها لن تشتهر إلا ببروز نجم ابنتها بثينة شعبان، مترجمة الأسد الأب والوزيرة والمستشارة الإعلامية في عهد ابنه. أما اسم غازي فسيرِد عرَضاً، برتبة رائد في الشرطة العسكرية، في مذكرات أيمن شربجي، قائد «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» بدمشق، حين سيشير إلى تفجير التنظيم بيت الأخير في مساكن الزاهرة عام 1981.

نجا الجهني. غير أن هذه الحادثة ستورثه حقداً شخصياً سيذوقه سجناء تدمر منذ أن تولى أمرهم بعد حادثة مهمة. ففي أيلول 1984 سيستغل بعض معتقلي «الطليعة» في فرع المنطقة (المعروف بالفرع 227) عطلة عيد الأضحى ويفرّون من هذا البناء الجديد الذي استطاعوا استثمار ثغراته. ستطلق هذه العملية موجة من التشدد في الفروع والسجون، ولا سيما تلك المرتبطة بشعبة المخابرات العسكرية التي يتبع لها الفرع. كان على رأس الشعبة قائدها الشهير علي دوبا، وكان يثق بغازي الذي أتيحت له الآن فرصة كاملة للانتقام من أعدائه الإسلاميين.

ترجع أسوأ الروايات التي نعرفها عن سجن تدمر إلى عهد الجهني المديد والمريع. حتى الانفراجة البسيطة التي حصلت في أواخر أيام فيصل غانم، التي كان سببها الفساد ومقصدها المال، انحسرت مع هذا المدير الذي كان حريصاً على أن لا يبدو مثل سلفه. وإذا كان دفع الرشاوى مقابل الزيارات هو ما ميّز عهد غانم فإن الزيارات أيام الجهني كانت نادرة، وغالباً ما كانت بعد الحصول على موافقة رسمية من شعبة المخابرات أو من إدارة الشرطة العسكرية التي يتبع لها السجن. القليل منها فقط كان يتم عبر المدير، من خلال شبكة «مفاتيح» محدودة من المحامين.

سيمضي عهد الجهني رتيباً. تعذيب، تعذيب، تعذيب. تعذيب أقل، تعذيب أشد. وهو ما يعرفه سجناء تدمر حين يحددون لك السنوات أو الأشهر الجهنمية

سيمضي عهد الجهني رتيباً. تعذيب، تعذيب، تعذيب. تعذيب أقل، تعذيب أشد. وهو ما يعرفه سجناء تدمر حين يحددون لك السنوات أو الأشهر الجهنمية، أو الأيام التي تشتد فيها الفظاعة دورياً، كعيد الجيش ورأس السنة، أو نتيجة مناسبة خاصة طارئة مثل وفاة الخميني!

لن يرى بعض السجناء وجهاً أقل قسوة للجهني إلا عندما نفّذ شيوعيون منهم إضرابهم الثاني في 1989، وكانت نتيجته أن سَمح بوصول الجرائد الرسمية والكتب إليهم ونقلَهم إلى مهجع أفضل مع باحة دائمة للتنفس، مبرراً أن تلبية مطالبهم الأخرى تتجاوز صلاحياته، ومنها دخول الأقلام!

أما الإسلاميون فسيرون وجهاً متوسطاً لقسوته، إن صح التعبير، عندما سيستدعي بعضهم مطلع 1990، مزهواً برتبته الجديدة كعميد، ليعاون لجنة أمنية ستقدم من دمشق لتقدير مدى تخلي السجناء عن أفكارهم السابقة واستعدادهم لبدء حياة جديدة في حال الإفراج عنهم. مشجعاً إياهم على التجاوب تمهيداً لعودة محتملة إلى بيوتهم، ناصحاً لهم بحيادية وكأنه بريء من معاناتهم: «هي عيشة عايشينها؟ عيشة الكلب أحسن من عيشتكم!».

في 1994 ستشخَّص إصابة الجهني بالسرطان وسيرسَل، على نفقة الجيش، إلى باريس لتلقي علاج لن يجدي. في منتصف 1996 سيعجز عن أداء مهامه ويغادر السجن، لكن الأمل في شفائه وعودته لن يتلاشى، وسيدفع إلى تكليف خلَفه بالإدارة مؤقتاً. ستمر شهور طويلة ووضعه يسوء حتى يغدو شبه مقعد. وفي منتصف تشرين الأول 1998 ستصدم إحدى الشاحنات سيارة المرسيدس التي كانت تقله عائداً إلى منزله في حمص، عند مفرق تدمر، وسيفارق الحياة إثر ذلك.

00_2.jpg

يتذكر سجناء تدمر أن استغاثتهم بالله أثناء التعذيب كانت تقابَل باستخفاف الجلادين الذين كانوا يردّون: «هون ما في الله»! سيرافق التجديف والكفر، الشائعَين في بيئة العسكر السوري، الجهني حتى ساعته الأخيرة. حين اتصل اللواء علي دوبا بالمشفى مهدداً: «إذا بيموت بدي ألعن ربكن ولحّقكن فيه»، لكن أحد الأطباء المسعفين سيعلّق لاحقاً: «كان جسمه مليان خراطيم وإبر وسيرومات. والله ما بيطالعه عايش!».

كلمات مفتاحية