لكل أمة من الأمم موروث ثقافي خاص بها يحفظ لها تاريخها الثقافي والسياسي، والجغرافي أيضاً. ويتم الاستعانة به عند حصول خصام أو اشتباك سياسي مع أمة مجاورة، وقد يكون هذا الإرث الحضاري مكتوباً كما في الوثائق التاريخية (المسلات الفرعونية، الرقم الطينية، ورق البردي...) أو إرثاً غير مكتوب تتناوله الأجيال مثل الشعر والقصص والأساطير.
لا شك أن الشعر العربي يعد رافداً أساسياً في حفظ تاريخ العرب وأماكن تواجدهم وحتى الأماكن التي مروا أو تواجدوا فيها، وذكرهم لتلك المدن في شعرهم يُعد من الدلائل الهامة على الاستمرار الحضاري لتلك المدن وما تركته من أثر حي في عقولهم وقلوبهم حتى ذكروها في أشعارهم، وهنا سنأخذ أسماء بعض المناطق والمدن السورية التي ذكرها بعض فحول الشعراء في العصر الجاهلي وهذا الأمر ليس من أجل الاستدلال التاريخي فهي أقدم من الشعر نفسه لكن لتبيان مدى أهميتها ومقدار التلاحم بين الأدب والجغرافية السياسية.
نبدأ من أمرئ القيس (نحو 500- 540م) أشعر العرب وصاحب إحدى المعلقات. تمتاز قصيدته التي جاءت تحت عنوان: "سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا"، بكثرة واختلاط مشاعره بين الحزن والشوق والنُبل كيف لا وقد قالها وهو بعيد عن دياره متجهاً نحو ملك الروم لطلب المساعدة في استعادة ملكه وقد مر في أرض الشام وذكر ذلك في هذه الأبيات:
فَلَمّا بَدا حَورانُ وَالآلُ دونَهُا
نَظَرتَ فَلَم تَنظُر بِعَينَيكَ مَنظَرا
تَقَطَّعُ أَسبابُ اللُبانَةِ وَالهَوى
عَشِيَّةَ جاوَزنا حَماةَ وَشَيزَرا
لَقَد أَنكَرَتني بَعلَبَكُّ وَأَهلُها
وَلَاِبنُ جُرَيجٍ في قُرى حِمصَ أَنكَرا
حوران وحمص وحماة ما زالت تحتفظ باسمها حتى اليوم وهذه دلالة على تدفق نهر الحضارة فيها، ولعل سبب ذكرها من قبل امرئ القيس لأنها كانت على طريق بلاد الروم، وأيضاً لوجود معارفه في بعض منها، لكنه لم يستفد شيئاً فقد أنكروه كما ذكر.
ما يميز الشعر العربي ليس فقط أنه أحد المراجع والمصادر للغة العربية بل هو أشبه برواية أو مسرحية جسدت الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، بل والجغرافي أيضاً.
أما شاعرنا الثاني فهو عمرو بن كلثوم، من شعراء المعلقات أيضاً، حفيد المهلهل والذي عُرف باعتزازه بنفسه ونسبه وكان من الفتاك الشجعان وقيل إنه عاش قرابة المئة عام تجول خلالها في بلاد الرافدين والشام والجزيرة العربية وكان قد ذكر في معلقته "أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا" الأبيات التالية:
صَبَنْتِ الكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو
وَكَانَ الكَأْسُ مَجْرَاهَا اليَمِيْنَا
وَمَا شَرُّ الثَّلاَثَةِ أُمَّ عَمْرٍو
بِصَاحِبِكِ الذِي لاَ تَصْبَحِيْنَا
وَكَأْسٍ قَدْ شَرِبْتُ بِبَعْلَبَكٍّ
وَأُخْرَى فِي دِمَشْقَ وَقَاصرِيْنَا
وفي هذه الأبيات يستنكر على أمه أن تبدأ الضيافة من اليسار (وذلك لوجود الضيف) على عكس عادات العرب والتي تبدأ من اليمين (وكان عمرو يجلس على يمينها) ثم يذكر لها أنه شرب كأساً مميزاً في دمشق وهنا بيت القصيد فهذه المدينة العامرة بالحياة كانت مميزة بكل شيء وعليه أصبحت عاصمة الدولة الأموية فيما بعد.
وأختم بشاعرنا الثالث من أصحاب المعلقات، وهو النابغة الذبياني، وقد عُرف بفصاحته وبجزالة شعره حتى أصبح مضرب المثل بالبلاغة والديباجة وكان كثير من الشعراء يأتون إليه لعرض قصائدهم عليه طلباً للحكم والنقد من بينهم الأعشى وحسان بن ثابت والخنساء، وكان النابغة قد تنقل بين الشام والعراق وذكر في عديد من أبياته تلميحاً أو تصريحاً لأماكن متعددة في تلك المناطق وهنا أقتبس من معلقته الشهيرة "يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ" هذه الأبيات:
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ
أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
إِلّا سُلَيمانُ إِذ قالَ الإِلَهُ لَهُ
قُم في البَرِيَّةِ فَاِحدُدها عَنِ الفَنَدِ
وخيّسِ الجِنَّ إِنّي قَد أَذِنتُ لَهُم
يَبنونَ تَدمُرَ بِالصُفّاحِ وَالعَمَدِ
وهنا يذكر الشاعر مدينة تدمر العظيمة الواقعة في بادية الشام وقيل هنا إن النابغة أخطأ؛ فالجن لم يبنوا تدمر بل بيت المقدس وإنما الملكة زنوبيا من بنى تدمر. وهنا يمكن القول إن تدمر لعظمتها أخذت من عقل النابغة ما أخذته حتى أختلط عليه الأمر أو أنه تعمد ذلك الوصف لعظمة البناء وحسنه. وفي كل الأحوال، ما يهمنا هو ذكر مدن سورية لما له من تأثير كبير في عقل وضمير الشعراء سواء لعلو مكانتها أو لعظمة بنائها أو لذكريات تربطهم بها. وما أظن أن نابغة العرب يفوته أمر مثل هذا وهو الذي تجول بين الشام والعراق وعاش في قصور ملوكها.
ما يميز الشعر العربي ليس فقط أنه أحد المراجع والمصادر للغة العربية بل هو أشبه برواية أو مسرحية جسدت الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، بل والجغرافي أيضاً. ويمكن استنباط كثير من الأمور من اللغة العربية، بوصفها لغة أدب وفن، وتتميز بثراء مفرداتها وحسن أسلوبها وجزالة متنها تكاد لا تنافسها في ذلك أي لغة في العالم. كما أن اللغات المتأخرة كاللغة العثمانية تأثرت بالشعر العربي وبحوره، وإنك لتجد أبيات شعر على أغلب الآثار العثمانية وقد كتب عليها أبيات شعر بالطريقة العربية على وزن أحد البحور الشعرية، ومن المفيد أن نعيد إحياء الشعر وحب الشعر بطرق متعددة سواء بطرق قصصية أو اسقاط بيت الشعر في محله سواء في الأمور الجغرافية أو السياسية أو الاجتماعية.