"مدرسة شملان" يوم مررتُ في وكر الجواسيس 2/3

2021.01.12 | 00:06 دمشق

b07a825d-7166-4407-b22e-0ca435d5e487.jpg
+A
حجم الخط
-A

باستثناء الجاسوسين المزدوجين بليك وفيلبي، اللذين فرّا إلى الاتحاد السوفييتي، فإن أي يساريّ لم تطأ قدماه مدرسة شملان (إن جاز احتساب هذين على اليسار). كان هذا في زمنها البريطاني الذي انتهى مع نهاية عام 1978، أما بعد سيطرة جبهة التحرير الفلسطينية على المدرسة مطلع عام 1979، فإن معظم من دخلها كانوا من اليساريين. وللغرابة، فإن كل ما كتب عن المدرسة بعد عهدها البريطاني لا يذكر فترتها الفلسطينية تلك، وسينتقل الحديث عن مآل المدرسة فوراً إلى عام 1995 عندما اشترت دار الأيتام الإسلامية المبنى من ملّاكه الأصليين لتشغله حتى اليوم.

معظمنا، نحن الرفيقات والرفاق المنتظمين في دورة الكادر السياسي في "مدرسة شملان"، إما خرّيجون أو طلبة جامعيون جاؤوا من عدة بلدان بما فيها فرنسا والجزائر والكويت وروسيا وحتى من داخل الأرض المحتلة، وجميعنا من ذوي الميول اليسارية. وكذا كان المحاضرون من كوادر الجبهة وقيادييها أبرزهم كان عضو المكتب السياسي "عبد الفتاح غانم"، أما المحاضرون الضيوف فكان بعضهم من الحزب الشيوعي اللبناني، من بينهم كان شخص مميز بثقافته سيُقدَّم لنا فقط باسم الدكتور كمال، ويدرسنا الاقتصاد. هناك سأتعرف على "مهدي عامل" محاضراً في "مشكلة المعرفة"، وللحقيقة تعرفت عليه باسمه الحقيقي الدكتور حسن حمدان، ولم أكن أعلم يومها أنه ذاته المفكّر مهدي عامل الذي سيُغتال بعدها بسبع سنوات على يد حزب الله، كذا سيدرّسنا عن تاريخ الحركة الصهيونية الدكتور إلياس شوفاني الأكاديمي والباحث الفلسطيني المعروف، والسفير اليمني في بيروت تلك الفترة الذي حاضر في "الاشتراكية العلمية"، ومحاضرون آخرون من لبنان وفلسطين ومصر.

أعتقد أن سرد المؤلف لهذه المجموعة المميزة من الأسماء لم يكن فقط بغرض درء شبهة الجاسوسية عن المركز، وإنما لإظهار كم كان هناك قبول لمركز "ميكاس" في الوسط الأكاديمي اللبناني والعربي

على طول كتابه، يذكر ماكلوكلين المحاضرين العرب في المركز منذ تأسيسيه وحتى إغلاقه، ولكنه سيتوقف في مقطع محدد، ليركّز على أسماء بعينها: "في آخر سني میکاس كان المركز يجتذب باضطراد محاضرين بارزين من العرب، بينهم الدكتور إلياس سابا وزير الخزانة اللبنانية وقتها، والدكتور قسطنطين زريق المؤرخ الفلسطيني البارز وأستاذ الجامعة الأميركية الذي ألّف كتاب "معنى النكبة" حول مدلول إنشاء دولة إسرائيل، والصحفي اللبناني المولود بدمشق ریاض الريس، وكذلك الدكتور إيلي سالم الذي أصبح فيما بعد وزیر خارجية لبنان، وغسان تویني الكاتب والصحفي الذي أصبح فيما بعد ممثل لبنان في هيئة الأمم المتحدة، وشارل مالك الذي طالما مثّل بلاده في الأمم المتحدة، والدكتور زین زین الأستاذ في جامعة بيروت الأميركية.. نقولا زيادة أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية، وكان محاضرَاً في ميكاس من أيام القدس، والمثقف الفلسطيني وليد الخالدي الذي مانع قبلاً أي علاقة مع ميكاس.. وهو المعروف بموقفه في أزمة السويس حين استقال من جامعة أوكسفورد استنكاراً".

أعتقد أن سرد المؤلف لهذه المجموعة المميزة من الأسماء لم يكن فقط بغرض درء شبهة الجاسوسية عن المركز، وإنما لإظهار كم كان هناك قبول لمركز "ميكاس" في الوسط الأكاديمي اللبناني والعربي. ورود تلك الأسماء كمحاضرين سيستدعي لذهن القارئ مقطعاً آخر من الكتاب، ربما سيبدو مُربكاً لتلك الأسماء "خلال حرب السويس كانت الدعاية الإعلامية البريطانية باللغة العربية تهدف للنيل من المعنويات المصريّة، وحين رفض الإذاعيون العرب إذاعة تلك الدعايات، تم على وجه السرعة قطع دورة عدد من موظفي الخارجية البريطانية في "ميكاس"، واستدعاؤهم ليجدوا أنفسهم يقرؤون تلك النصوص بالعربية من استوديو محطة الشرق الأدنى التي تبث من قبرص".

كان ممنوع علينا الصعود للطابق الأعلى، حيث الكتب والوثائق والصور التي خلفتها "ميكاس"، لكن في ليلة سينام فيها "أبو اليسار" في بيروت، وهو مسؤول الموقع وحراسته، والمقيم الدائم هناك. سوف نتسلل للأعلى أنا وصديقي طلال فارس القادم أيضاً من سوريا، لكننا بسبب إقفال الغرف، لم نتمكن من رؤية الوثائق، لكننا سنتأمل الصور في الممرات، إحداها لا تُنسى، كانت لطفل يقود جملاً كتب تحتها "الملك فيصل بن عبد العزيز"ً.

كانت تتولى شؤون إطعامنا نهاراً سيدة لبنانية كنا ندعوها "أم نوال". وفي ليلة، كنا جائعين، قررنا أن نفكك القفل الذي تمتلك مفتاحه أم نوال، وندخل الغرفة المستخدمة كمخزن لمعلبات الطعام. هناك سأجد أوراقاً مكدّسة عشوائياً فوق بعضها، كانت مرميّة بإهمال، وسوف يدفعني الفضول لمعرفة ما تحتويه. هي لم تكن أوراق عادية بل كانت أوراق حرير تستخدم كأصلٍ لطباعة نسخ منها، وهي الطريقة المعروفة قبل وجود آلات تصوير ونسخ المستندات. لليوم ما زلت أذكر ما قرأته من دراسة تفصيلية عن أحد أفراد الأسرة الحاكمة في الكويت. تذكر الأوراق اسم الأمير (للأسف لم أعد أذكره) الذي يدرس في إحدى جامعات لندن، مع عنوان سكنه والأماكن التي يرتادها، بما فيها أسماء المقاهي والنوادي الليلية، وتتحدث بالتفصيل عن تفضيلاته لنمط الأصدقاء، وحتى مواصفات النساء اللواتي يستهوينه. وفي خاتمة الفصل الخاص به كان هناك تقييم لوضعه وترتيبه ضمن العائلة الحاكمة إضافة لطموحاته المحتملة، وإن كان التسلسل الوراثي يتيح له الوصول لإمارة البلد أو أن يكون في أحد المناصب الحساسة، وصولاً للاستنتاج أنه من الصعب للأمير المسكين أن يكون شخصاً مؤثراً في مستقبل دولة الكويت. في كتابه سيتحدث المؤلف عن ترك الصور الجماعية التي تؤخذ سنوياً لطلاب دورات ميكاس والمعلقة في ممرات المركز أثناء الإخلاء البريطاني السريع والأخير، وهي فعلاً كانت هناك إضافة للوثائق والكتب التي لم نرها نحن ولم يذكرها ماكلوكلين.

كانت إدارة المركز البريطاني، بحسب ماكلوكلين، تعرف كل ما يدور في قرية شملان ومحيطها، حتى أسماء من يزورها لفترة من أجل الاصطياف

بينما أُتيح لطلاب "ميكاس" الاختلاط الواسع مع مجتمع "شملان" وبناء علاقات مع عائلاتها، وصولاً لمشاركة بعضهم السكن في بيوت عائلات القرية، فإننا لم نقترب من أحد منهم، ولمرة واحدة فقط تناولنا القهوة في "مقهى الشرفة" مقابل المدرسة. فرغم سيطرة الحزب التقدمي الاشتراكي وهو الحليف (بحسب إدارة المدرسة)، إلا أن التعليمات كانت بالحذر وعدم الاحتكاك مع المحيط.  حتى أنَّ معلومة ما (سنعرف فيما بعد أنها عن عملية المنطاد) وصلت لإدارة المدرسة، استدعت استطلاعاً عسكرياً دقيقاً سينفذه حرس المقر يومياً للطريق الذي سنخرج إليه للجري الرياضي الصباحي، حرصاً علينا. حاولت الجبهة حينها تنفيذ عملية بالمنطاد والطيران الشراعي (كان مركز التدريب عليها في محيط مدينة حمص). كانت العملية تستهدف مواقع عسكرية إسرائيلية في الداخل الفلسطيني، ولكن المنطاد احترق بعد إقلاعه بلحظات، وسقط في مناطق سيطرة قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، واستشهد أفراد العملية وقائدها "غسان كاخي" وهو طالب هندسة بتروكيميا سوري كنت تعرّفت عليه في مكتب الجبهة، في مخيم العائدين بحمص. وسوف يزيد طين الحذر الأمني بلّة، أن إنزالاً إسرائيلياً استهدف موقعاً فلسطينياً في منطقة "السعديات" على الساحل جنوب "الدامور" خلال فترة وجودنا، مما دعا إدارة "مدرسة الكادر" (وهذا اسمها الفلسطيني)، للتشديد الأمني وإلزامنا لبضعة أيام بمناوبات حراسة ليلية مع الأسلحة.

كانت إدارة المركز البريطاني، بحسب ماكلوكلين، تعرف كل ما يدور في قرية شملان ومحيطها، حتى أسماء من يزورها لفترة من أجل الاصطياف. إذاً، هل كان مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية "ميكاس" مركزاً للتجسس، أم مدرسة لتعليم الدبلوماسيين البريطانيين اللغة العربية؟ سوف نرى.