مدرسة بادوفا ومقاربات الإسلام الكونية

2021.12.31 | 05:37 دمشق

university-of-padua.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثيرةٌ هي الحقائق السوسيولوجية اللافتة عن الإسلام بوصفه الدين الثاني اتباعا في الدول الأوروبية كلها في هذه الأيام، أو بوصفه دين الأقلية الأكبر عددا هناك؛ وهي بمجملها حقائق لافتة وصولًا إلى النقطة التي يصير عندها القول بأن "تاريخ أوروبا صار إسلاميا"، وإن "تاريخ الإسلام صار أوروبيا"، قولًا مُمكنًا ومفهومًا. ويبدو أن أكثر هذه الحقائق السوسيولوجية أهميةً بالنسبة إلينا هي غياب إمكانية استكمال أي نوعٍ من أنواع التطور السياسي والاجتماعي في المنطقة الإسلامية المتوسطية من دون إشراك أوروبا في هذا المسار. وهذا يعني أمرين: الأمر الأول أن تتخلى أوروبا عن ملكيتها الحصرية للحداثة، أو عن النزعة المركزية الغربية المتمثلة في مقولة "الغرب والآخرون" (The west and the rest) لمصلحة مقولة "الحداثات المتعددة" (Multiple Modernities) – شرط أن يستند توصيف الحداثة إلى معيار أخلاقي كوني من نوعٍ ما، وأن يكون هذا المعيار مقبولًا على المستوى الإنساني الأكثر كُليَّةً.

والأمر الثاني أن يصير العالم الإسلامي خارج أوروبا مؤهلًا للكونية، وقادرًا على إنتاج "حداثته الخاصة"، وفق جدلية العالمي والمحلي. وللاقتراب من هذه الجدلية الشائقة يمكن أن نستعين باللفظة الذكيَّة التي نحتها السوسيولوجي البريطاني "رونالد روبرتسون" (Ronad Robertson) وهي لفظة (Glolocalization) ويمكن أن نترجمها بـ "المحلية الكونية": وتعبر عن التصالح بين العالمي والمحلي، بل التكامل بينهما في مكانٍ ما، الأمر الذي يؤسس لإمكانٍ جديدٍ لحداثات متعددة تتواصل في فضاء إنساني مشترك. وثمة بعد آخر لا يقل أهميةً، وهو تأهيل الإنسان وضمان امتلاكه القدرة اللازمة للقيام بالفعل، ولا تنفصل هذه الأهلية عن مبدأ حرية القيام بالأفعال وفق طروحات الاقتصادي البريطاني الهندي "أمارتيا سين" (Amartya Kumar Sen) تحديدًا في كتابيه المهمين: "التنمية بوصفها حرية" (Development as Freedom)، و"فكرة العدالة" (The Idea of justice).

يمكن للمرء أن يلمس هذه الروح في جامعة بادوفا الإيطالية (university of Padua)، وقد عاينت هذه المدرسة عن قرب في زياراتي الأخيرة إليها، وبصورة رئيسة مع أفكار الآباء الروحيين لهذه التجربة الذين لا يزالوا يحاضرون في قاعات هذه الجامعة العريقة، ويطوِّرون نظرياتهم فيها: مثل "إنزو باتشي" و"أدوني برانداليزي" و"ستيفانو أليفي" وجيل جديد تتلمذ على أيديهم، ومنهم من هو من أصول عربية مثل "خالد الغزالي"، وآخرون. ولجامعة بادوفا أهمية خاصة، ليس لأنها واحدةٌ من أقدم جامعات أوروبا (أسست في 1222م) ومنها مرَّ غاليلو وكوبرنيكوس فحسب، ولكن أيضًا لأنها تحاول التأثير في المجتمع الأوروبي وضفاف المتوسط من طريق تأهيل الإنسان أكاديميًا وفكريًا ليلعب دورًا في تقريب الشعوب ومجابهة التطرف. وبهذا المعنى احتضنت الجامعة أخيرًا برامج أكاديمية كانت العربية لغةً من لغات التدريس فيها، وهذه سابقة مهمة في الجامعات الأوروبية، وتحسب لطاقم التدريس في بادوفا من الجيلين الأول والثاني، وخصوصًا أنه كان مسارًا معقدًا من النواحي القانونية والبيروقراطية إلا إنهم ذللوا هذه التعقيدات كلها.

ويبدو أن مدرسة بادوفا في سوسيولوجيا الإسلام – إن صح التعبير – تجربةٌ ينبغي الانتباه إليها، والانتباه منها في الوقت نفسه: ينبغي الانتباه إليها بوصفها صورة معاصرة للنوايا الطيبة وقد تمأسست؛ فإذا أردنا وصفًا مقتضبًا ودقيقًا لمشروع جامعة بادوفا في علاقته بالإسلام لا نجد أفضل من القول بأنها "مأسسة النوايا الطيبة" إزاء الإسلام بصورة عامة، والإسلام الأوروبي بصورة خاصة. وينبغي الانتباه منها لأنها لا تزال تجربة أوروبية التوجه في نوعية المشكلات التي تطرحها؛ ومع أنها تطرح مشكلات معاصرة ومهمة إلا إن الأغلبية من شعوب العالم الإسلامي على الضفاف الأخرى للمتوسط لم تمتلك هذه النوعية من المشكلات بعد، ومن ثم يبدو بالنسبة إلى كثيرين منهم أن هذا النوع من التفكير يتضمن شيئًا من الترف في وقتٍ لا يزال الإنسان في مناطقنا يُفكر في الحفاظ على نفسه بالمعنى البيولوجي للكلمة. وعلى ذلك تصير أفكار مثل "المحلية الكونية" و"الحداثات المتعددة" والأهلية وعلاقتها بالحرية ودور الإسلام في ذلك كله، ضربًا من "المشكلات الجميلة" التي لم نتمكن من اقتنائها إلى اليوم. يعني ذلك أن مدرسة بادوفا ينبغي أن تنفتح على عيونٍ غير أوروبية في النظر إلى طبيعة المشكلات على ضفاف المتوسط غير الأوروبية.

إيلاء الاهتمام بالنموذج السوري هو الطريق الأفضل لتحقيق هذا الانفتاح؛ فالنموذج السوري يمثل حالة لافتة وجاذبة بالمعنى السوسيولوجي الأكاديمي لدراسة مآلات ما يمكن أن نسميه "مأسسة النوايا الشريرة"

وفي هذا السياق نطرح أن إيلاء الاهتمام بالنموذج السوري هو الطريق الأفضل لتحقيق هذا الانفتاح؛ فالنموذج السوري يمثل حالة لافتة وجاذبة بالمعنى السوسيولوجي الأكاديمي لدراسة مآلات ما يمكن أن نسميه "مأسسة النوايا الشريرة". وبقدر ما كانت تجربة الجزائر في أواسط القرن الماضي مغريةً للتفكير في الإسلام في أوروبا عمومًا، وفي جامعة بادوفا خصوصًا، بقدر ما تُكوِّن التجربة السورية منذ عشر سنوات إلى اليوم مادةً جديدة مهمة للتفكير في موضوعات الإسلام والحرية ومسارات التحديث. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة سرديةٌ كونية تبني نفسها في سوريا وهي أكثرُ أهميةً، وهي سردية "الألم السوري" الذي تشاهده أوروبا، والعالم كله، بصمتٍ مريبٍ ورهيب. ويؤهل هذا الألم صاحبه للعمومي وفقًا للقاعدة الهايدغرية (نسبةً إلى الفيلسوف مارتن هايدغر)، وكأن السوري يتألم نيابة عن الإنسانية كلها، الأمر الذي يجعل من السوري شريكًا حقيقيًا في الفكر العالمي ومستقبله.

في مشهدٍ جميلٍ من مشاهد الفيلم السينمائي الرائع "معركة الجزائر" (La battaglia di Algeri) للمخرج الإيطالي الراحل "جيلو بونتيكورفو" (Gillo Pontecorvo)، يقول أحد قيادي جبهة التحرير الوطني لزميله: يصعب على الشعب أن يبدأ ثورة، ويصعب أكثر مواصلتها، والأكثر صعوبة أن ينتصر فيها، ولكن بعد الانتصار تبدأ الصعوبات الكبيرة والحقيقية". وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن الصعوبات الحقيقية ليست ملكًا لضفة المتوسط غير الأوروبية بعد، ولكن يمكن أن يكون مخاضُ الألم سببًا في نقل هذه الشعوب إلى مرحلة الصعوبات الكبيرة والحقيقية، أي إلى مرحلة بناء الذات الوطنية من طريق الدولة الوطنية وأساساتها الإنسانية والأخلاقية، وثمة حركةٌ رشيقةٌ من الممكن أن يؤديها الإسلام دائمًا في هذا الانتقال إذا صار بصورة أو بأخرى مسارًا كونيًا، ولهذا تحديدًا ربما يكون مفيدًا أن يظل المختبر السوري دائمًا تحت مجهر مدرسة بادوفا الرائدة؛ فالمختبر السوري مدخلٌ مهم لما يمكن أن نسميه "كوننة الإسلام"، فهذا المختبر يقوم بتعيين مفهوم "الجهل المقدس" – بتعبيرات أوليفه روا. و"كوننة الإسلام" بهذا المعنى لا تعني شيئًا إلا تمسك الإسلام بثقافته المحلية والتصاقه بها وفق مبدأ "المحلية الكونية" (Glolocalization) حسب تحديد روبرتسون. وهذا يلتقي بطبيعة الحال مع مقاربة أوليفيه روا لما يسميه "الدين المحض"، وهو الدين المنزوع من ثقافته تمهيدًا لتصديره واحتضانه لمشروعٍ عنيف. وبهذا المعنى نحن نميز بين ما يمكن أن نسميه الإسلام المحلي المُكونن (Glolocazised)، والإسلام المُعولم (Globalized)، فالأول إيجابي ينتج حداثة وتطويرا ويلتصق بثقافته المحلية، والثاني سلبي لا ثقافة له ودينٌ محض ينتج عنفًا ويعيد إنتاجه. وبطبيعة الحال يجد هذا "الجهل المقدس" لنفسه وسطًا في "الجهل المُؤسس" الذي تحتضنه الأنظمة السياسية الإجرامية، الأمر الذي يجعل إمكانية ابتكار حلول للمسائل الإسلامية المفتوحة في العالم كله أمرًا لصيقًا بمسألة الحرية السياسية والاجتماعية في بلدان التوتر العالي وأهمها سوريا.

ختامًا يمكن القول إن تجربة جامعة بادوفا في سوسيولوجيا الإسلام أو "المدرسة البادوفانية" كما يحبذ خالد الغزالي تسميتها، هي تجربة رائدة وشجاعة، والأهم أنها أخلاقية، وتضع النوايا الحسنة في صيغةٍ مُمأسسةٍ وصلبةٍ، وقادرةٍ على إنتاج الجديد بصورة مستمرة. وفي الوقت الذي وجدت فيه هذه التجربة لنفسها موطئ قدمٍ في المغرب العربي؛ فإنها إلى اليوم لا تزال بعيدة إلى حدٍ ما عن مشرقه، ولذلك يكون مفيدًا أن نلتفت إليها نحن في منطقة شرق المتوسط، وكذلك في منطقة الخليج، على مستويات التفاعل والتعاون والشراكة والتفكير والتحليل والاستنتاج. وقد أطلقت إيطاليا بالتعاون مع منظمة التعاون الإسلامي مشروعا ضخما اسمه "بريمايد" (PriMed) يهدف إلى "الوقاية من التطرف الديني" وضمَّ شبكة من اثنتي عشرة جامعة إيطالية من أهمها جامعة بادوفا، وبالتنسيق مع جامعة بيمونتي أورينتالي (piemonte orientale)، وكذلك ضم المشروع عشر جامعات تنتمي إلى دول منظمة التعاون الإسلامي ولكن معظمها من دول المغرب العربي.      

ويبدو لنا أن الالتفات إلى هذا النوع من العمل والتفكير مطلوبٌ من السوريين بصورةٍ مخصوصة ومهم ومفيد، لأن مشكلات "الإسلام المُعولم" وأنواع العنف المختلفة التي تنتج منه، ستكون يومًا واحدةً من أبرز العوائق التي علينا أن نعد أنفسنا للتعامل معها في سوريا في المستقبل القريب.