icon
التغطية الحية

مدخل عام لقراءة الروائي السوري الراحل خيري الذهبي

2022.07.08 | 14:03 دمشق

ذهبي
+A
حجم الخط
-A

يأتي الروائي السوري خيري الذهبي الذي غادر حياتنا منذ أيام، في سلسلة روائيين سوريين وعرب ممن تمكنوا من خلق جغرافية سردية خاصة بهم أثبتوا فيها أنهم من صنّاع تجربة السرد العربي الحديث، من أمثال السوريين هاني الراهب وحنا مينة ووليد إخلاصي وممدوح عزام وعبد السلام العجيلي وخليل الرزّ وغيرهم.

ومن ملامح هذه الجغرافية السردية لخيري الذهبي أنه لم يضع في أهدافه أوهام العالمية والكونية ليكتب عن قضايا وموضوعات غريبة عن مجتمعه وثقافته أو نائية عن مشكلات البيئة الداخلية الواقعة في قلب أزمات حادة اجتماعيا وفكريا وسياسيا. أي أنه من بيئة غنية بمحرضات الكتابة وآفاقها، مما يجعلها مؤونة كافية لاحتمالات الإبداع الروائي وغير الروائي. وذلك ما يجعلنا نستحضر (القاهرية والمصرية) في إبداع نجيب محفوظ. نقول القاهرية والمصرية بمعنى سيطرة المكان الذي عاش فيه الروائي ونما وتثقف، المكان الذي نسج عوالم خيري الذهبي الداخلية وذائقته وفضاءه الروحيّ. بحيث يمكن أن نقول إن (الدمشقية والسورية) أيضا حاضران في كمّ لا بأس به من نتاج السرد السوريّ رواية وقصة. (وذلك ما فعله بامتياز روائيون سوريون آخرون من كتابة بيئة فراتية ديرية أو بحريّة أو حلبية أو حورانية... الخ)

ولم يكن المكان يوما عائقا أمام رؤى عالمية للمبدع، فالمكان ليس انغلاقا على هوية أو وعيٍ، إنما هو فاعلية روحية وذاكراتيّة وسياسية ووجدانية، المكان رحمٌ للتحولات والانقلابات على كل صعيد، تبدأ من مسار الأسرة والمجتمع الصغير وتصل إلى مسارات النظم الحاكمة التي يحدد تعاملها مع المكان نوعية علاقتاها مع الشعب والثقافة والمستقبل.

وحين نقول إن خيري الذهبي سردَ المكانَ، أو أرّخ له، فهذا لا يدخل في معنى الرواية التاريخية كما هو المصطلح الشائع، لأن الرواية التاريخية تعني نمطا من كتابة أدبية للتاريخ وأحداثه عبر شخصيات واقعية ومحدودة بضرورة الإقناع والمصداقية المطابقة للوقائع، أي ليس هناك كثيرٌ من (الإبداع) ومغامرته في (الرواية التاريخية) لأن القارئ سوف يتعامل مع النصّ من منطلق أنه يعرف عما يتحدث مسبقا، وهذا منافٍ للإبداع، لهذا فإن خيري الذهبي لا يكتب رواية تاريخية بقدر ما يكتبُ رواية تستلهم التاريخ وتعيد تركيبه ومساءلته بحسب مقتضيات فن الرواية وليس كما يتطلبه البحث التاريخي والعلميّ. ثم إن الرواية التاريخية انتهت من التداول الإبداعي لأنها عائق في وجه الشروط الفنية والجمالية لفن الرواية.

 

ذهبي

 

لذلك يدعو الناقد عبد الله إبراهيم إلى تبنّي مصطلح بديل هو (التخيّل التاريخي). وهو مصطلح يجمع فيما بين الحدث التاريخي الذي يعالجه الروائي أو يستحضره، وبين الخيال ونشاطه حين يدفع ذلك الخيال صاحبة إلى إعادة تركيب الحديث التاريخي وتقويضه وتفكيكه ورسم معالمه كأنه حدث يجري في المستقبل أو الآن وليس في الماضي، فلو راح خيري الذهبي يستعيد التاريخ في الرواية كما هو لتعطلت لغة الرواية وشروطها من تخييل ومغامرة لغوية وأسلوبية ورؤيوية، فثلاثيته الشهيرة والرائعة (التحولات) هي خير مثال على الكيفية المدهشة التي عالج فيها خيري الذهبي التاريخ ووقائعه ومساره، هذه الثلاثية لم تكن تسجيلا ولا توثيقا لمراحل من حياة دمشق ومجتمعها، لم تعنَ الثلاثية بالصدق التاريخي الواقعيّ، ولم ترهق القارئ بما يعرفه من أحداث ووقائع وتطورات، بل كانت الثلاثية رصدا أدبيا جماليا عالي الوتيرة للحسّ التاريخيّ الكامن وراء الروح المبدعة، الحسّ الذي يحرك الحدث والشخصيات وينلها من طورٍ إلى طورٍ ومن مأزق إلى مأزق، من رؤيا إلى رؤيا، من هزيمة إلى فرحٍ، ثلاثيته كانت تتابع لإيقاع التاريخ وتأثيره على الحياة اليومية والعاطفية واقتصادية للبشر والمدينة ومعالمها، فهؤلاء البشر في ارتباطهم بالمكان وتناقضاته، هم الذين يصنعون التاريخ الذي غالبا ما يكون غير مدوّن رسميا، لقد غاص الذهبي في التاريخ غير المدوّن للروح السورية الدمشقية، تاركا التاريخ الواقعي الوثائقي لنوعٍ آخر من الكتب التي ألّفها والتي أخذت صيغة البحث أو التأريخ. لذلك يعرف الذهبي بأنه (روائي) و(مؤرّخ)، وليس (روائيا مؤرّخا). فكان انشغاله بالتاريخ ذا مسارين متزامنين: أحدهما التاريخ كما هو، وثانيهما التاريخ باعتباره سيرة الروح الحقيقية التي تعاني وتنكسر وتنهزم وتحلم، سيرة الكائن في تحولاته واستجاباته للمشكلات والأزمات التي يجد نفسه فيها في حياته اليومية والاجتماعية.

وتصلح روايته (فخّ الأسماء) لتكون مثالا على  أن تاريخ المغول لا يحضر بصفته حدثا واقعيا مطابقا لما كان، بل هو موضوع مأخوذ باعتبارات روائية بحتة، أي كما رآها خيري الذهبي بعين الروائي الذي يمتلك وجهة نظر في التاريخ ويريد تحميل وجهة نظره للشخوص والأحداث الروائية.

ولأن التاريخ ليس خطابا هائما في السراب، بل هو تعيّناتٌ وتحقيقاتٌ تتم على الأرض، فكان لا بد لخيري الذهبي أن يهرّب لنا رؤيته للتاريخ عبر شخوصٍ عاديين أو مأزومين، وعبر مكان (أو أمكنة) يحتضن هؤلاء في معاشهم وعلاقاتهم وصراعهم، ولا يقف الصراع عند مستوى فرديّ أو مناطقيّ بل -وهذا الأهمّ- يدخل في مناطق ممنوعة ومحرّمة تنال السلطة العسكرية السياسية التي تسلب روح الناس وروح المكان معا. وتأتي روايته (الإصبع السادسة) التي صدرت بعد 2011 لتكتب مقطعا زمنيا من تاريخ السوريين الذين عاشوا مرحلة تحولات خطيرة على مستوى التاريخ والهوية وهي مرحلة إبراهيم باشا، الذي أراد تغيير البلاد تغييرا ثوريا معتمدا على فهم حديث وعلميّ وقانونيّ للحياة، فآمن به السوريون، وبنوا أحلامهم ومستقبلهم مستقوين بشخصيته ومشروعه، لكنه حين انسحب انسحبت معه الأحلام وسقطت الرهانات الكبرى. والذهبي يقارن بين ما حدث لهؤلاء السوريين زمن إبراهيم باشا، وما حدث لهم في مرحلة الأسد، فيقول صراحةً في حوار مع الروائي هيثم حسين (موقع الجزيرة):

"ما يجري الآن في سوريا هو شكل من أشكال خيبة الثورة البورجوازية الفرنسية التي حملها إلينا إبراهيم باشا عام1831، وكانت الأمل في إخراج سوريا من الحمأة الآسيوية التي غرقت فيها منذ الغزوات البدوية القادمة من عمق آسيا. حين وصل إبراهيم باشا إلى الشام، كان معه عدد من ضباط بونابرت حاملي أفكار الثورة التي غيّرت مسيرة العالم، وكان أشهرهم الكولونيل سيف، الذي سنعرفه من الأدبيات المصرية تحت اسم سليمان باشا الفرنساويّ، وهؤلاء البونابرتيّون لم يكونوا عسكريّين محترفين فقط، بل كانوا رسل الثورة الفرنسية".  

وكما تفوح من روايات عالمية رائحة تاريخ الشعوب المقهورة والمهزومة والمهمشة، كذلك سعى خيري الذهبي إلى نسج رواية تطرح في عمقها التاريخ المهمّش الذي يمكن لأي قارئ في العالم أن يستشفّه حين يقرأ روايته الدمشقية، فهو يؤمن أن الرواية قادرة على صياغة تاريخ المقموعين الشغيلة والعشاق المقهورين، أو الفقراء الذين يعانون بصمت من اضطهاد النظام وتعسفه وتهميشه للمدينة وتشويهه لروحها.

يتأمل الذهبي في طبائع شخصياته ومآزقها صغيرة كانت أم كبيرة، واقعية أم وجودية، ليبني من خلال تأمله ذاك عالم كل شخصية محيطا بحدوده وحراكه ضابطا كل ذلك بما يمليه عليه الروائي الفنان الساحر

لم تكن شرائح الفقراء والعامة ميدانا لرواية الذهبي وحدهم، بل هو توقف عند شخصية (المثقف) في مجتمعه، وهنا سوف يأخذ الشغل الفني بعدا مغايرا لأن معالجة شخص المثقف يختلف عن شخص (ابن الحارة) العاديّ، ولكن من غير تعالٍ وتمايزٍ للمثقف على من سواه من فئات مجتمعه. على أن خيري الذهبي وضع هذا المثقف في الأزمات والحالات نفسها التي يعاني منها أي فرد في المجتمع الصغير أو الكبير، فهو تارة مهزومٌ مكسورٌ وهو تارة قلقٌ في تعاطيه مع سلطة المجتمع الأخلاقية والسياسية، وهو متشظّي الروح حالم بامتلاك فاعلية حقيقة وبارزة يريد انتزاعها من يد السلطة وأجهزتها المتحكمة بتاريخ المكان ومظاهره.

ونموذج المثقف موضوع شائع في الروايات العربية وغير العربية، ولكن سوف نجد بطبيعة الحال فروقا شاسعة بين مثقف يعيش في بلد يحكمه نظام استبداديّ مخابراتيّ، ومثقف يعيش في باريس أو برلين أو نيويورك... لهذا فثمة تحريض كبير على أن تنشأ دراسات في أدب مقارن بين شخصيات المثقفين في الرواية العربية والرواية الأوروبية أو رواية أميركا اللاتينية، وقد نجد حالات متقاربة مع هذه الأخيرة (اللاتينية) بحكم خضوعها أيضا لحكم جنرالات وعسكرتاريا كما هو الحال في بلادنا المستباحة.

يتأمل الذهبي في طبائع شخصياته ومآزقها صغيرة كانت أم كبيرة، واقعية أم وجودية، ليبني من خلال تأمله ذاك عالم كل شخصية محيطا بحدوده وحراكه ضابطا كل ذلك بما يمليه عليه الروائي الفنان الساحر.

لم يكن خيري الذهبي حين مارس كتابة السيناريو بغريب عن هذه الكتابة، فمن قبل ذلك كان قد درس السينما ولم يكمل دراستها، ومن قبل ذلك أيضا تقدم روايته كونا حيويا من الشخصيات المتحاورة والمتصارعة والتي تمشي في فضائه الروائي بطريقة محبوكة ومدروسة، منتبها لأقل تفصيل وحركة تساهم في بناء الشخصية الروائية بناء تصاعديا دراميا، غير غافل عن علاقة كل شخص بالمكان والزمان والتبدلات، وكأنه يسخّر كل تقنيات السرد والدراما والسيناريو في سبيل إكمال مبناه الروائي. لذلك كان من اليسير تحويل بعض رواياته إلى عمل بصريّ (مسلسل أو سينما)، فهو دليل على أن الذهبي كان يرسم خريطة روايته بحرفية ومهارة من يحفظ منعرجات البشر والأماكن والبيئة والوعي، أي أنه لم يكن يترك لغته تهيم في تداعيات وخواطر مائعة واستطرادات شعرية واستعارات بلاغية لا مقابل لها على أرض الواقع، كما يفعل بعض روائيين موهومين بما يسمونه اللغة الشعرية في الرواية وكأن اللغة الشعرية ميزة ومكسب للروائي في حين هي عائق كبير أمام طبيعة السرد الروائي والنثر العظيم. لم ينسق خيري الذهبي وراء ذلك الوهم فراح يستنطق كل إمكانيات النثر وطاقاته التخييلية والفنية على القول الروائي وليس القول الشعري. وهذا لا يعني أن روايته لا تؤثر في القارئ (أو المشاهد) تأثيرا انفعاليا ووجدانيا عميقا، إذ من قال إن ذلك التأثير هو حكر على اللغة الشعرية؟ لقد عاش الذهبي مؤمنا باستقلال فن الرواية وامتلاكها لهويتها الذاتية دون إخضاعها لتشويش الأجناس الكتابية الأخرى، لذلك كان يفرد كتبا أخرى لا تحمل صفة الرواية يقدم فيها إما سيرة ذاتية أو أجزاء من ذكرياته كما فعل في كتاب (من دمشق إلى حيفا : 300 يوم في إسرائيل)، أو حقق ونشر كتبا تتناول حياة شخصيات من التاريخ السوري كما فعل في (منصور بن سرجون التغلبي, يوحنا الدمشقي) و(نزهة الأنام في محاسن الشام) وسواهما.