icon
التغطية الحية

مختارات القصة القصيرة: "كفن حمود" لـ عبد السلام العجيلي

2021.02.12 | 14:54 دمشق

67ghqftaa.jpg
(مصدر الصور من موقع التاريخ السوري المعاصر)
 تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

مختارات القصة القصيرة، زاوية أسبوعية يقدّمها قسم الثقافة للقرّاء كل يوم جمعة، وهي مخصصة لعرض قصة قصيرة من تأليف أديبات وأدباء سوريين.

 

عن القصة والكاتب

قصة "كفن حمّود" من مجموعة قصص حملت عنوان "الحب والنفس" كتبها الأديب والروائي عبد السلام العجيلي عام 1959.

ولد عبد السلام العجيلي في مدينة الرقة عام 1918. تلقى تعليمه الابتدائي في الرقة وأكمل دراسته الإعدادية في مدينة حلب لكن المرض أعاده إلى الرقة ليقضي أربع سنوات في قراءة كتب التاريخ والدين والقصص الشعبي ودواوين التراث العربي. أتم دراسته في ثانوية المأمون بحلب قبل أن يلتحق بكلية الطب في جامعة دمشق، ويعود إلى الرقة طبيبًا ويشرّع باب عيادته فيها منذ ذلك الحين.

انتخب نائبًا عن مدينة الرقة عام 1947، وكان من الشبان السوريين الذين حاربوا في صفوف جيش الإنقاذ عام 1948. تولى عددًا من المناصب الوزارية في وزارة الثقافة والخارجية والإعلام عام 1962. كتب القصة والرواية والشعر والمقالة، وترجمت معظم أعماله إلى اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والأسبانية، والروسية. تُدرّس العديد من أعماله في الجامعات والمدارس ويعد مرجعًا من مراجع الأدب العربي. توفى في الـ5 من نيسان عام 2006 عن عمر ناهز 88 عامًا.

النتاج الروائي:  "باسمة بين الدموع"، 1958- "قلوب على الأسلاك"، 1974- "ألوان الحب الثلاثة"، 1975- "أزاهير تشرين المدماة"، 1977 "المغمورون"، 1979- "أرض السّياد"، 1998- "أجملهن عام"، 2001.

النتاجات الأخرى: "ساعة الملازم" (قصص)، 1951- "الحب والنفس" (قصص) 1959- "الخائن" (قصص)، 1960- "رصيف العذراء السوداء" (قصص)، 1960- "الخيل والنساء" (قصص)، 1965- "حكاية مجانين" (قصص)، 1972- "الحب الحزين" (قصص)، 1979- "في كل وادٍ عصا" 1984- "فصول أبي البهاء" (قصص)، 1986- "موت الحبيبة" (قصص)، 1987- "حفنة من الذكريات" 1987- "فلسطينيات عبد السلام العجيلي" (مقالات)، 1994- "محطات من الحياة" (مقالات)، 1995- "ادفع بالتي هي أحسن" (مقالات)، 1997- "أحاديث الطبيب" (مقالات)، 1997- "خواطر مسافر" (مقالات)، 1997- "مجهولة على الطريق" (قصص)، 1997.

القصة:

حين  بلغ أعضاء اللجنة الدار، وجدن الباب مفتوحاً، ووجدن عمّتي نجمة قائمة تنتظرهن وفي يدها الطَابَة.

عمتي نجمة فاتت السبعين من عمرها، تميل في كل خطوة تخطوها إلى الجانب المخالف للساق التي تدفعها إلى الأمام، وعيناها مغرورقتان دوماً بالدمع.

في هذه المرة كانت عيناها أكثر امتلاءً بالدمع من كل مرة، حتى لقد سالت منهما قطرات على خديها.

ليس معنى ذلك أنَّ عمتي نجمة كانت تبكي، فلعلَّ ذلك كان مصدره برد الصباح، أو جهد الوقوف، فعمتي نجمة قليلة التأثر بما يؤسي الناس، جَلْدة صبورة.

قالت وهي تمد يدها بالطابة الملفوفة بورقٍ أزرق إلى عضو من أعضاء اللجنة:

ـ هذه الطابة أتيت بها من الحجاز، من جانب بيت الله، أحاسبكن يوم الله إن لم تصل إليهم سالمة..

2

قد تسألون أية طابة كانت تحملُ عمّتي نجمة.

في بلدنا يُسمّون الكرة التي يلهو بها الأولاد طابة. ويطلقون أسم الطَابَة على صَفائح المرمر المستطيلة الصقيلة التي يغطون بها حفرة القبر قبل ردمه بالتراب، ومن هذا ما سمعت عنه خادم بيتنا يقول لعجوز من جارتنا أرهقته بالسخرة:

ـ متى يسعدني الله ياخالتي فأصفّ الطابات على قبرك المبارك:!

ثم إنّنا في بلدنا نسمي قطعة القماش غير المخيطة، والتي يدعوها التجار ثوباً، نسميها طابة.

بالطبع لم تكن عمتي نجمة تحمل في يدها كرة لعب لتقدمها للجنة، فقد تجاوزت السن التي تبيح لها ذلك منذ زمن بعيد. ولم تكن تحمل صخرة من صخور القبور، فقد كانت أعجز من أن تفعل ذلك، ولو قدرت عليه فما الذي تفيده اللجنة من مثل هذه الصخرة؟ إنما كانت عمتي نجمة تحمل طابة قماش، ثوباً كاملاً من الحرير الأبيض الشعري، الحرير الصيني ذي الغزالين، أفخر صنف من نوعه.

قالت عمتي نجمة لأعضاء اللجنة: حفظت هذه الطابة لحمّود. أحاسبكن يوم الله إن لم تصل إليهم.

3

اللجنة التي كانت عمّتي نجمة تُخاطب أعضاءَها هي لجنة السيدات لأسبوع التسلّح. أما حمود فقد كان، رحمه الله، ابنها.

حجّت عمتي نجمة في العام الفائت. لم تنقضِ بعد أربعة شهور على عودتها من أرض الحجاز. أما حمّود فقد تقضّت سبعة أعوام وثمانية أشهر على فراقه هذه الدنيا. فكيف تقول عمّتي نجمة أنها حفظت هذه الطابة التي جاءت بها من الحجاز لحمود؟ هل خرفت عمتي نجمة؟ أم هل حيّ حمود بعد موته؟

عمتي نجمة لم تخرف. وحمود، حمود ذو الوجه المجدور، والعضل المفتول، والخد المصعّر لم يحي من موتة ماتها.

وإذا كانت عمتي نجمة قد قالت لسيدات لجنة التسلّح أنها حفظت الثوب الحريري الناصع البياض لحمّود فهي قد عنت عظام حمّود، لا حمّوداً الحي، بل حمّوداً الذي فارق الحياة منذ سبعة أعوام وثمانية أشهر.

4

منذ سبعة أعوام وثمانية أشهر، منذ جاء خبر حمّود، غدت عظام حمّود الشغل الشاغل لعمّتي نجمة.

كلما لقيتُ عمّتي نجمة واحداً من صحاب حمّود سألته ماذا حل بعظام حمّود. وكلما شكت ألم عضو من جسدها تأوّهت وقالت: أتراني أموت قبل أن ألملم عظام حمّود. وكلما دار حديث عن النكبة والأرض المغصوبة تساءَلت:

أترى فتح الطريق لأزور عظام حمّود؟

لم تعرفُ عمّتي نجمة الأرض التي صرع فيها حمّود، ولم ترَ مصرعه، ولكنها كانت ترى دوماً تلك الأرض بعين تصوراتها، وترى جسده ملقى على أديمها. كان أشدُ ما يوئسها أنَّ حموداً ظل على ذلك الأديم مطروحاً لا يحويه قبر ولا يلف جثمانه كفن، حتى بلي وتبعثرت عظامه. فآه لو أن يدها المرتعشة، استطاعت أن تلمّ تلك العظام بعضها على بعض. ولا شيء غير ذلك..

5

تلك الأرض التي تناثرت عليها عظام حمّود، أين تقع؟

لا تسألوا عمّتي نجمة فإنّها لاتدري. ولا تسألوها عن مصرع حمّود، كيف حدث؟ فإنهّا كذلك لاتدري. كل الذي تدريه عمّتي نجمة إنَّ حمّود قد ذهب في ذات يومٍ متطوعاً، كما ذهب أبناء عمّه وأبناء قومه متطوعين إلى فلسطين، ثم عادوا ولم يعد حمّود. فلما سألت عنه قيلَ لها انه لم يَعد لأنه استشهد. قالوا لها انه سقط في معركة الشجرة شهيداً، فبكت عمتي نجمة أياماً قليلة، ثم سكتت.

لم تبك عمتي نجمة طويلاً. لقد ذهب حمود مع أبناء عمه، فهل يُعقل أن يعودوا جميعاً سالمين؟ لو كان القتيل إبراهيم أو عبد الباقي أو خليل أو محمد لما كان حزنها على أي منهم دون حزنها على حمود.

فلتَطوِ جوانحها على أساها: فلن يُرجِعَ الدمع حمّود.

6

ولكن حمود، كما قيل لها، حين قتل، ظل ملقى في العراء، لأن رفاقه طردوا بعد أن صرع من الأرض التي كانوا يحتلونها.

تلك الصورة لحمود بوجهه المجدور متطلعاً إلى السماء وجسده الطريح ملقى على ظهره وذراعيه الممتدتين إلى جانبي جسده كأنهما تحتضنان الفضاء. هي كل ما بقي من وصف رفاقه الذين شهدوا مصرعه، وهي كل ما استقر في تصور عمتي نجمة عن مصرعه في تلك الأرض البعيدة، أرض فلسطين.

حمود، ابنها حمود، ملقى في العراء. مات ولم يدفن لا، ولم يكفن. وعظامه التي غسلها المطر وجففتها الريح ظلت هناك في الأرض القفر بلا قبر ولا كفن..

7

 كلّما دار حديث النكبة وسمعت عمّتي نجمة لفظة فلسطين سأَلت في لهفة: أترى فتحت الطريق لألملم عظام ذلك الصبيّ؟

قضية فلسطين كلها بالنسبة إلى عمّتي نجمة هي قضية طريق مسدودة لا بد، من أن تفتح. إن لم تفتح اليوم فستفتح غداً.

فشل القادة، ويئس الساسة، وتأمر الزعماء، وثبطت همم المتحمّسين، ونفضَ كثير من الناس أيديهم من الأرض المسلوبة. ولكن عمّتي نجمة لم تفقد إيماناً ولا أضاعت ثقة. فهي ترتقب اليوم الذي تزور فيه عظام ابنها ارتقاب المؤمن وعد ربه، في هدوء واطمئنان.

وعلى إيمانها ذاك، وعلى ثقتها تلك، اشترت عمّتي نجمة حين حجّت في الموسم الفائت طابة الحرير الشعري هذه، من أرض الحجاز، من تاجر في جوار بيت الله.

8

لمَ اشترت عمّتي هذا الثوب الحريري الناصع البياض من ذلك التاجر في جوار بيت الله؟ ألِتَلْبَسَه، وهي التي اتخذت الشعار سواداً حتى قبل أن يفارقها حمّود؟ أم لتهديه، وهي التي عصرت في نفقات الحج كلّ ما حوته يدها الفقيرة من مال؟

لا هذا ولا ذاك. ولكن عمّتي نجمة اشترت الثوب الأبيض الطاهر من تلك الديار المقدسة وفي نيتها شيء واحد هو أن تجعله كفناً تلفّ به عظام حمّود حين تجمعها من على أديم تلك الأرض التي شربت دمه في معركة الشجرة، أرض فلسطين.

9

حين فشل القادة، ويئس الساسة، وتآمر الزعماء، وثبطت همم المتحمّسين، لم تفقد عمّتي نجمة الإيمان، ولا أضاعت الثقة في أن طريق فلسطين ستفتح، ولكن شيئاً في نفسها، في جسدها، في اضطراب ركبتيها إذا قامت، وفي تهاوي جسدها إذا قعدت، وفي ارتجاف يديها إذا مدتهما لحاجة، إنَّ شيئاً في كل هذه كان يدعوها إلى أن تتساءَل: هل ستكون هي، عمّتي نجمة، حين تفتح تلك الطريق؟ هل سيمتد بها العمر إلى ذلك اليوم؟

ماذا يكون إذا فارقت عمّتي نجمة هذه الدنيا قبل أن تفتح تلك الطريق؟ ما الذي يحدثُ لعظام حمّود في العراء، ولطابة الحرير المودعة في الدولاب العتيق؟

10

في تلك الأثناء تحدّث الناس، وأكثروا، عن أسبوع التسلّح.

قالوا لعمّتي نجمة أنهم سيجمعون في ذلك الأسبوع مالاً، وسيشترون بذلك المال سلاحاً. فسألتهم عمّتي نجمة: ما الذي ستفعلونه بهذا السلاح؟

قال بعضهم: نحمي به أنفسنا.

وقال آخرون: بل نستعيد به فلسطين.

فهتفت عمّتي نجمة: هل تستعيدون موقع الشجرة، حيث عظام ذلك الصبي مبعثرة؟

فضحك السامعون وقالوا: بعون الله ياعجوز!

فسكتت عمّتي نجمة. سكتت لتفكّر بثوبِ الحرير الناصع البياض وبعظام ابنها حمود ملفوفةً به.

11

حين فضّت واحدة من سيدات لجنة التسلّح الورق الأزرق عن طابة الحرير الصيني لتريها لرفيقاتها سقطت من الطابة ورقةً كبيرة، ورقةً مسطرةً، منتزعةً من دفتر من التي يكتبُ فيها التلاميذ وظائفهم المدرسية.

 في تلك الورقة كانت جملة مكتوبة بخط تلميذٍ، واحد من أحفاد عمّتي نجمة ولا شك، هي:

"من والدة الشهيد حمّود الابراهيم العجيلي إلى لجنة التسلّح" وتحت هذه الجملة كانت كلمتان مكتوبتين بحروف أكبر:

"ثوب حمّود".

12

 منذ أن سلّمت طابة الحرير الشعري، الحرير الصيني ذي الغزالين، أفخر صنف من نوعه، إلى سيدات لجنة التسلّح، نامت عمّتي نجمة ملءَ جفونها.

نامت ولم تعد تستفيق في إنصاف الليالي لتمسح أجفانها الورهاء من حلم رأت فيه تلك العظام منثورةً على الأرض العراء. ولم تعد عينها كذلك، إذا استفاقت، تتقذى بمرأى طابة حرير منبوذة في الدولاب العتيق، تنتظر أن تحملُ إلى تلك الأرض البعيدة القريبة، لتلفَّ العظام المبعثرة، عظام حمّود. ألم تسلّم عمّتي نجمة تلك الطابة يدا بيد إلى سيدات اللجنة؟

ألم تنذرهن بأنَّها ستحاسبهن يوم الله إذا لم تصل تلك الطابة "إليهم"سالمة؟

13

"إليهم"! من هم؟ وأين هم؟

لو سألتهم عمّتي نجمة "عنهم" للجلجت كثيراً، ولأعوزها الجواب الواضح. من هم؟

إنها لاتعرفهم على وجه اليقين، ولكنها تدرك بقلبها من هم. أما قيل لها إنَّ ما يجمع من السلاح فهو "لهم"، و"إنهم" هم الذين سيفتحون تلك الطريق، ويستعيدون تلك الأرض ويأخذون ذلك الثأر؟

من هم؟ إنّها لتعرفهم. هم الذين سيبلغون موقع الشجرة ويلملمون عظام حمود، ولهذا أرسلت إليهم عن طريق سيدات لجنة التسلّح ثوب حمّود. أرسلت إليهم كفن حمّود، فقرّت عينها، فنامت.

14

نامت عمّتي نجمة وقد تركت أمانة يجبُ أن تؤدى.

ذلك الثوب، كفن حمّود هو وديعة يجبُ أن تحمل إلى صاحبها. لذلك لا تعجبوا إذا علمتم إنَّ أعيننا كثيرة لم تنم بعد أن نامت عين عمّتي نجمة.

انّه همّ عظيم أن يحملَ ذلك الكفن إلى صاحبه. ذلك يعني أن طريقاً يجبُ أن تفتح، وأرضاً يجب أن تسترد، ثأراً يجب أن يبلغ، قبل أن تلفّ بالطابة الحريرية تلك العظام التي غسلها المطر، وجففتها الرياح، وصقلتها الرمال.

فَمَنْذا يحملُ كفن حمّود إليه؟

15

ترى من هم، أولئك الذين سيحملون كفن حمّود إليه؟ أيكونون إبراهيم وعبد الباقي وعبد السلام ومحمد؟

إنّهم جيل عادَ من المعركة تاركاً عظام حمّود في العراء.

في نفوسهم ذلّة وعلى جباههم ميسمَ عارٍ. كلما لقيت عمّتي نجمة واحداً منهم سألته: أين خلّفت عظام حمّود؟ وكأنها تقول له بذلك: أنت الذي بعثرت تلك العظام على ذلك الأديم!

أم هم أحمد وعبدالوهاب وعامر وعبد العظيم وحميد؟

جيل يلي الأول، ذاق الفشل ولم يفهمَ دواعيه، فتخبّط في الحماسة وما زال يجهل الدرب.

أم هم عبدالاله وسوسن وشوقي وماريا، حين يحمل الفتيان والفتيات أقساطاً متماثلة من همّ الأمة وحق الحياة؟

أم كل هذه الأجيال، أم جيل غير كل هذه الأجيال؟!

16

من ذا الذي سيحملُ كفنَ حمّود؟

جيل آثم يريدُ أن يشتري خطيئته ويكفّر عن عاره.

وجيل يريد أن يلقي نفسه في النار ولا يدري أنها تحرق. وجيل يتهيأ ليكون كفؤاً للهمّ الذي أعد له. وأجيال لاتزال في باطن الغيب...

من ذا الذي يحمل منهم كفن حمّود إليه؟ تساؤل ذاد المنام عن الأعين بعد أن هجعت عين عمّتي نجمة.

إنَّ عمّتي نجمة لم تدر أيةِ نارٍ أضرمت حين ألقت طابة الحرير بين أيدي أعضاء اللجنة حين مررن بدارها ذلكَ الصباح.

17

لتنم عمتي نجمة هادئة البال. إنَّ تلك الطابة، ذلك الثوب، كفن حمود، لابد أن يحمل إلى حمود.

 

 

كلمات مفتاحية