محكمة كوبلنز في إنصاف السوريين.. "أول الرقص حنجلة"

2021.02.28 | 00:01 دمشق

21220-web_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ البداية، لا أكتب دفاعاً عن شخص اسمه إياد الغريب، على الرغم من تعاطفي مع قضيته سلفاً، لكنني أبدي رأياً في مسألة على درجة من الأهمية تخصني وتخص كثيرا من السوريين، بعد أن اصابهم ما أصابهم خلال عقود من الظلم وعقد من الثورة غير المكتملة، وبعد محاولات إيهامهم المتواترة من المجتمع الدولي بأن الحق لا بدّ آتٍ آت.

كنت سأرفع قبعتي تقديرا لمحكمة كوبلنز حين تنطحت بعد عشر سنوات على المقتلة السورية أن تبدأ جلساتها بالانتصار للضحايا الذين بقي العالم يتفرج على دمائهم يومياً تسفح على الشاشات دون أي رد فعل حقيقي يتجاوز التعاطف السلبي مع الضحايا. وكنت كما غيري سأفرح كثيرا لأن المحكمة ستثبت أن الحق لا يموت، ولكن أن تبدأ المحكمة الألمانية ذات الولاية العالمية بمحاكمة عنصر أمن سابق برتبة صف ضابط في أحد أجهزة الأمن السورية، وتوهم السوريين والعالم بأن ساعة القصاص قد دقّت، فذلك يحتاج إلى وقفة إمعان وتفكير بعيداً عن أي ضجيج.

وعلى الرغم من متابعتي لمجريات المحكمة بالتفصيل الممل، ظل لدي هاجس يراودني بأن المحكمة ستفاجئني كما غيري من المتابعين، بأدلة دامغة تدين المتهم وتُسكت كل الذين ظلوا يتحدثون بيقين غير مدعوم بإثباتات عن براءة إياد الغريب بناء على نشوة خيار الأخير بالانشقاق المبكر (بداية 2012) عن النظام القاتل وتخليه عن التمتع بالميزات الهائلة التي يحظى بها عناصر الأمن في سوريا. أمّا وإن ذلك لم يتضح، فاقتضى الأمر أن أبدي ملاحظاتي (وعلى قدر استيعابي لمفهوم العدالة وتطبيقاتها) في أي مكان.

أدرك أن المحكمة الألمانية كما غيرها من المحاكم غير معنيّة بالانتماء السياسي للمتّهم، ويجب أن تكون فعلا، غير معنية، فيما إن كان المتهم ينتمي إلى النظام السوري أم إلى المعارضة أو أي شريحة أخرى بين الاثنين، لكن محكمة كوبلنز، وعلى نحو غير معهود في المحاكم الرزينة، احتفت بضجيج غير مفهوم بأنها حازت على قصب السبق في محاكمة وصفتها وسائل الإعلام الألمانية وغير الألمانية "بالتاريخية" لأزلام النظام السوري المنفلت عن كل الشرائع.

قد ينطلي إيحاؤها بمحاكمة ممثلي النظام السوري على كثيرين ممن لا يعرفون تفاصيل الوضع السوري ولا يفرقون بين أوهام الشبّيح في المقاومة والممانعة وأوهام نقيضه المعارِض في انتظار تجسيد الشرعية الدولية إجراءاتها الرادعة. وأستكثر على المحكمة إصرارها اعتبار صف الضابط في أحد أجهزة الأمن السورية سابقاً أحد أزلام النظام السوري حتى بعد تسع سنوات من انشقاقه، الأمر الذي تسبب بإحداث كل تلك الضجة بين السوريين على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الرديفة. 

ونقلا عما تردد عن المحكمة طوال فترة انعقاد جلساتها التي تعدت 58 جلسة على مدى عامين كاملين  وحتى ليلة النطق بالحكم أن إياد الغريب هو برتبة ضابط، وتم تمرير تلك المعلومة غير الدقيقة بسلاسة إلى وسائل الإعلام ما جعل القنوات التلفزيونية تردد ليل نهار بأن أحد ضباط النظام السوري المجرم تتم محاكمته الآن في ألمانيا، ولهذا التفصيل الذي يبدو قليل الأهمية لأي شخص بعيد، لكن أهميته  يُفترض أن تكون بالغة في مسار المحاكمة، وبالتالي لهذا التفصيل مآله في سيرورة الحكم وطبيعته ومدته أيضاً (ثمة فرق واضح بين ضابط آمر في أجهزة الأمن السورية بشكل خاص ويقوم بأفعاله متقصداً، وبين صف ضابط مأمور يقوم بتنفيذ الأوامر بقوة البسطار العسكري) وإذ أبدي هذه الملاحظة على الرغم من إقراري بضعف معلوماتي في القانون، لكن الأمر مثير للانتباه فعلاً.

الأمر الآخر، لم يصل إياد إلى ألمانيا متسللا ومتخفيا بين أفواج السوريين الهائلة التي وصلت إلى ألمانيا بين 2014 – 2016 حتى يتم اكتشاف أمره بالمصادفة، أو عن طريق دسيسة معينة أو تقرير من منظمة حقوقية ليتم القبض عليه وإيداعه في الزنزانة الانفرادية قرابة عامين، بل جاء الرجل بعد أن غامر بإرسال ابنه ذي 12 عاما ليعبر البحار والبراري انطلاقا من سوريا ووصولا إلى أوروبا ليتمكن إياد وباقي أفراد عائلته لاحقا من الالتحاق بابنهم عن طريق حق ما يسمى بـ (لمّ الشمل)، أي عبر مراحل طويلة تتجاوز 5 سنوات وعبر تقديم أوراق ووثائق كثيرة تمكّن السلطات الألمانية بمعرفة تفاصيل الأشخاص الذين قد يصبحون ذات يوم في عداد السكان البلد الأصليين...

بعد وصول إياد إلى ألمانيا خضع مثل غيره إلى استجواب مفصل عن أدق تفاصيل مراحل حياته (إجراء روتيني لقبول طلبه بالإقامة) لكن السلطات الألمانية طلبت الاستطراد بالتفاصيل كونها مهتمة بمكان عمله المثير ولها في ذلك غايات أخرى أجهلها وقد يجهلها كثيرون غيري أيضاً. وبالطبع، طلب الجهة الألمانية بالاستفاضة جاء طواعية وبكثير من التودد والتعاطف كما العادة مع اللاجئين. مما شجع الرجل بالاستفاضة التي استخدمت أجزاء منها لاحقاً ربما لإدانته وإيصاله إلى الزنزانة المنفردة.

خطوات موجزة من  رحلة الاعتقال

بعد 8 أشهر من وصول إياد إلى ألمانيا اكتشفت السلطات الألمانية أن المدعو الضابط السابق في أجهزة الأمن السورية أنور رسلان والمحتجز لدى السلطات الألمانية بعد ادّعاء إحدى الجهات (المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية برئاسة المحامي أنور البني) عليه ينتمي إلى فرع الأمن نفسه 251 الذي أدلى إياد الغريب بمعلومات عن نشاطاته. مما اقتضى بحسب السلطات الألمانية أن تلقي القبض على إياد حتى وإن لم يدّعي أحد عليه.

اكتشفت عائلة إياد أن الأمر ليس مجرد استدعاء عادي للتأكد من معلومة ما أو ما شابه ذلك، وبقي إياد في سجنه خلال الفترة الأولى قرابة (شهرين ونصف) ولم تتمكن جهات التحقيق من إثبات أي تهمة ضده رغم محاولتها مع المتعاونين معها من الأفراد والجهات "السورية" المتبرعة، ما أدى إلى إخلاء سبيله على نحو مفاجئ وكان خلالها في وضع احتجاز في زنزانة انفرادية وممنوع من التواصل مع أي شخص من داخل السجن أو خارجه باعتباره "مشروع مجرم خطير جدا".  

بقي إياد نحو 45 يوما طليقا بعد سجنه الأول (تحت المراقبة اللصيقة هو وعائلته)، وبحسب إفادة محامي الدفاع أن جميع التهم التي سبقت تلك الفترة (أيار 2019) قد سقطت عنه تماما، محذرا إياد وعائلته من عدم الانسياق وراء وسائل الإعلام والتعامل مع الصحفيين الفضوليين كي لا تنشر تلك الوسائل أي عبارة أو كلمة "لها ما لها من مفعول لأن تعيده إلى السجن مرة أخرى"... وهذا ما تم الالتزام به حرفيا.

بعد إطلاق سراحه أول مرة تم استدعاؤه ثانية إلى التحقيق وحينها كان إياد مطمئنا بأن كل شيء سيء قد ولّى إلى غير رجعة، لكن عائلته فوجئت بأنه لم يعد وأن ولي أمرهم قد اعتقل ثانية من جديد، ومرة أخرى بدأت عائلة إياد المستجدة في ألمانيا في رحلة البحث عن الأسباب وعن إمكانية الدفاع عنه، بالمقابل اجتهدت المحكمة ليلا ونهارا في البحث عن دليل يمكنه أن يثبت على إياد أي جريمة فاستدعت شهودا من فرنسا وبلجيكا وهولندا ودول أوروبية أخرى، بحسب الروايات، لكنها لم تتمكن من إثبات أي دليل يمكنه أن يدين الرجل.

ومرة أخرى ثمة تساؤلات عامة تتداعى إلى ذهن أي شخص عادي. ما الذي استجد في القضية ليطلق سراح الرجل أول مرة ثم يتم اعتقاله ثانية بعد التطمينات الأولى؟

كانت الإشارات الواردة من المحكمة طوال اعتقاله خلال الفترتين الأولى والثانية، ألا شهادة أبدا أو ادعاء شخصيا أو من أي جهة أخرى تم تسجيلها ضد إياد وأن الحكم سيكون بالتأكيد بالبراءة وفي أقصى الحالات قد تكتفي المحكمة بالفترة التي قضاها إياد قيد التحقيق (18 شهرا)، ويُحسب لمحامي الدفاع وللمحكمة أيضاً شروعها في فصل قضية إياد عن قضية الضابط أنور رسلان الذي ما زالت قضيته قيد التحقيق واستكمال الإجراءات التي قد تطول.

المهم، أن المحكمة وبعد فصل قضية إياد عن أنور رسلان صارت جاهزة للنطق بحكمها في 24 -02-2021 بعد أن عرفت أنها استكملت إجراءاتها، وبالفعل حكم على إياد الغريب بالسجن مدة 4.5 سنوات بتهمة تسببه باعتقال 30 شخصاً في إحدى مظاهرات دوما عام 2011 وتسليمهم إلى فرع الخطيب وتعريضهم للتعذيب!!  دون أن يستطيع أحد إثبات ذلك بالدليل القاطع! فلربما تم إخلاء سبيل معظمم الـ 30 شخصاً الذين أُمر إياد باقتيادهم إلى الفرع، أو العكس، ربما تم تعذيب معظمهم حتى الموت... المهم لا أعتقد أن أحدا يستطيع إثبات ما حل بهؤلاء الآن، وهذا لا يستقيم بافتراض معين سلباً كان أم إيجاباً حتى يحكم على إياد بموجب هذه الفرضية العصية على الإثبات من وجهة نظري. كما أن التهمة المذكورة هي اعتراف المحكوم نفسه بقيامه بتنفيذ الأمر الذي أوكل إليه والقاضي بنقل قسم ممن تم القبض عليه خلال المظاهرة وسوقه إلى الفرع للتحقيق. والسؤال هل كان بإمكان صف الضابط إطلاق سراحهم؟! ولو افترضنا أن ذلك وارد فماذا كان ينتظر الرجل لو أنه لم يوصلهم إلى الفرع الأمني؟ ربما أن المحكمة الألمانية تعتقد أن ذلك ممكن ولهذا أدانت المتهم. ثمة استطرادات فانتازية إن انطبقت على ألمانيا أو أي دولة يتمتع مواطنوها بمثل هذه الحقوق لكن الأمر أكثر من مستحيل في الحالة السورية الخارجة عن سياق كل ما هو منطقي في التعامل مع البشر وحقوق الإنسان.

تساؤلات مشروعة

ثمة غصّة تنتابنا نحن السوريين مما يجري عند كل حالة منذ 2011، فالنظام الذي أمعن بجرائمه ومذابحه الجماعية باستخدام الطيران والبراميل والمدافع وحصار التجويع المذل لكل البلدات السورية تقريبا والكيمياوي، وشهادات قيصر، وصور القصف اليومية، وغير ذلك من الأدلة التي تحصى بالملايين، لكنها غير كافية على الإثبات الكامل بموجب القانون الدولي وبحسب قوة الفيتو الروسي لمحاسبة مرتكبيها المعروفين، بالمقابل يتم استخدام الولاية القضائية العالمية لمحاكمة المجرمين لإدانة شخص مثل إياد بعد أن نأى بنفسه عن النظام ونحاكمه الآن باعتباره (رغماً عنه) جزءا من هذا النظام. ولا أريد هنا أن أفهم أن ما يجري هو بمثابة رسالة تطمينية أخرى للنظام السوري أن أبشر فقد بدأنا بمحاكمة من شق عصا الطاعة عنك وبذلك ينطبق قول شاعرنا جرير حين تهكم ذات مرة.

زعم الفرزدق أن سيقتل مِربَعاً             فأبشر بطول السلامة يا مربع

مثل هذه المحاكمة، على ما أعتقد، سابقة لأوانها لجهة العدالة الانتقالية المطلوبة في الحالات التي تشبه ما جرى في سوريا والتي تقضي بانتهاء الصراع وبإمكانية الوصول إلى الأشخاص المدّعى عليهم جميعاً، بالمقابل تجري محكمة كوبلنز، السابقة لأوانها في وقت ما زالت العدالة الدولية عاجزة تماما من الوصول إلى من مازال يواصل القصف والقتل والتعذيب والتغييب. وفي الوقت الذي لا إمكانية فيه لتجسيد العدالة الانتقالية، فمن العبث البدء "بعدالة انتقائية" تجري على من لا يملك قوة الدفاع عن نفسه في بلد غريب بلغته وأعرافه وتقاليد محاكماته أيضاً، والغربب جداً أيضاً، أن العدالة الانتقائية نفسها لم تمس كثيرا من الشخصيات التي بقيت وما زالت تجوب أوروبا من شمالها إلى جنوبها منذ أربعة عقود، على الرغم من وجود عشرات الدعاوى ضدهم بسبب دورهم في مذابح حماة أوغيرها؟!.

يطول الحديث في العدالة التي تنشدها البشرية منذ بدء الخليقة، ولا يصح في وصف حالتها أبلغ من قول شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري حين وصفوا له حساء الديك.

استضعفوك فوصفوك ** هلّا وصفوا شبل الأسد؟