محاولة في تفسير تفوّق الطلاب السوريين دراسياً

2022.07.16 | 04:55 دمشق

تفوّق الطلاب السوريين دراسيًا
+A
حجم الخط
-A

انبرى صديق سوري، على مشارف الستين، للشهادة الثانوية العامة في السويد، ونالها على ساق واحدة، بينما أخفقتُ في نيل شهادة الطبقة الأولى من اللغة الجديدة، فقد وجدت من أمري في اللغة الألمانية نصبا. كان صديقي السوري السويدي يعرف من أين تؤكل الكتف.

تراكيب اللغة الألمانية طابقية متراكبة، قطاريّة، قواعدها رياضية، أول درجة في اللغة الألمانية هو معرفة جنس الكلمة، تذكيرًا أو تأنيثًا، حتى الألمان يشكون من نحو اللغة الألمانية وأبنيتها، ألفاظ الألمانية على نازح مثلي غازيّة المادة، وليست مثل العربية أو التركية صلبة، أو مثل الصينية سائلة. يصعب على عين أسد عجوز مثلي تمييز خطوط حُمر وحش الكلمات الهاربة، ويشقُّ على أذنه عزل أحرف لغة الكشكشة عن بعضها، فحرف الشين يسود اللغة الألمانية، وهو أهمسها صوتًا، وعلى المتعلم كشف عورة الكلمات ورفع تنانيرها لمعرفة جنسها. والأجناس ثلاثة في الألمانية وليست مثل العربية، إما تذكير وإما تأنيث. قدّمت الامتحان مقامرًا عدة مرات من غير نجاح، إلى أن وُفقتُ في العثور على فتية سوريين، وزدناهم هدى، في أحد الكورسات، فهدوني إلى حيلة النجاح.

 سألني الشاب الحلبي أبو عبدو:

 كم تدفع لقاء النجاح إذا ضمنته لك يا خاي

 قلت: ما تريد.

تُرفع عشرات التقارير الصحفية سنويًا في نهاية العام الدراسي مبتهجة بتفوق الطلاب السوريين في المنازح والمنافي والمبارح

فعزمت في نفسي على مبلغ ألف يورو من غير أن أصرّح بالمبلغ، فقال: ستنجح بأقل من المبلغ الذي أسررت به لنفسك، وعلى كفالتي.

تُرفع عشرات التقارير الصحفية سنويًا في نهاية العام الدراسي مبتهجة بتفوق الطلاب السوريين في المنازح والمنافي والمبارح: مصر وتركيا والكويت وألمانيا وبريطانيا، ويحتفل بهم احتفالًا لم يكونوا يجدونه في وطنهم، وقد حصلوا على براءات اختراع، وبعضهم أثروا واغتنوا. نظام الأسد يتطير من النجومية، إلا نجومية الممثل والمطرب فلا خوف منهما.

الطالب السوري، ذكرًا أو أنثى مجدٌ، وهو تاجر علامات ناجح، ولا بد أنَّ لتفوقه أسبابًا، قد تكون قديمة ورثها من أجداده الأوائل الذين اخترعوا الأبجدية  في أوغاريت ورأس شمرا، أو ورثها من أجداده المسلمين الذين  حضّوا على العلم، فآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والرقائق تحثُّ على العلم وتثني على الشام المباركة وأكناف بيت المقدس / "فإنّ العلم بالشام"، وفي النصوص الإسلامية ثناءٌ  كثير على أهل الشام، لكنني أجد سببًا وجيهًا آخر هو حافظ الأسد، باغض العلم وشانئ العلماء وسيد الجريمة وقائد المجرمين، وبطل الظلم والظالمين،  فقد قضى حافظ الأسد على الرعيل الأول من المعلمين والمتفوقين إلا من هرب  باكرًا  إلى البلاد البعيدة.

كان الطلاب في السبعينيات قبل عهد الأسد أقلُّ حصيدًا للعلامات في الشهادات والامتحانات، لكن أكثر فهمًا وعلمًا، ثم أمسوا في عهده يحصلون على العلامة التامة، حتى أنَّ وزارة التعليم لجأت إلى "التثقيل" للمفاضلة بين طلاب حصلوا على العلامة الشريفة نفسها، لحيازة مقعد الدراسة الجامعية، بعد أن شحت المقاعد حتى أنَّ   وزيرًا سوريًا بعثيًا في دولة الأسد توعّد الجيل الجديد من غير أن يرفّ له جفن، أن يجعل الجامعة حلمًا يحلم به الطالب وسرابًا!

وأقرّ الأسد العلامات النضالية المظليّة، فأفسد العلم، واستبيحت الجامعات، ووجدنا محاضرين ظلمة وأساتذة مرضى يحكمون الطلاب ويبيعون النجاح. وكان يمكن للأسد أن يولي مظلييه العناية بدورات خاصة، لكنه منحهم علامات صافية.

 كيف إذا رعى الأسد العلم في سوريا، وقد جعل العلم في سوريا كحصيد المحتظر؟

عندما نزح السوري وجد مناهج الدول المجاورة أو البعيدة أخفّ من المناهج السورية الثقيلة

أغلق الأسد أبواب الرزق والعمل وضّيق على الناس حتى جعل لمحالّ الفلافل والحلاقة رخصة أمنية، فلم يجد الشاب السوري سوى الدراسة في الجامعة، وكان الأسد أول صعوده بعيثًا أو يوهم بذلك، وكان اسمه في نشرات الأخبار: الرفيق حافظ الأسد، جاء الرفيق وغادر الرفيق، وقضى الرفيق على الإقطاع، ويظهر تقدير العلم في الجيش أو المعتقلات، إذ يتعرض الحاصل على شهادة جامعية على إذلال كبير من الزملاء الأعلى رتبة. وقضيت الفترة الجامعية بيد واحدة، كانت الثانية مغلولة بالجاكيت الجامعي، ورجال الأمن، وهم زملاء غالبًا، يقفون على الأبواب يصادرون الدخان الأجنبي، ويشجعون على الدخان الوطني، ويحرصون على المساواة بين الطلاب، وكان يمكن للأسد أن يمنع التدخين من أجل الصحة ومقاومة الأعداء بجسم سليم، وسعى الأسد إلى تبعيث الدولة والمجتمع، مستلهمًا تجارب كوريا الشمالية التي عانت من مجاعات ما لبثنا أن شهدناها، ودرس الطلاب السوريون علوما لا يحبونها بسبب العلامة الجامعية. والفروق الاقتصادية بين دخول المتخرجين كبيرة، ولم يكن هذا حاصلا في أوروبا، اشتراكية أو رأسمالية، فقد درس زملاء سوريون الطب في أوروبا، أو جامعات روسيا بشهادات أدبية، وعادوا يحملون شهادات عالية في الطب مهوى الأفئدة في المال والمجتمع والسيادة. وكان الأسد قد أغرقنا بمناهج ثقيلة وزائدة، الرياضيات في الشهادة الثانوية أربعة كتب، والعلوم الطبيعية كتاب من ثلاثمئة صفحة نحفظها حفظًا كالأشعار، وكان يريد الأسد بالطلاب حيفًا، لكنه انقلب خيرًا، فعندما نزح السوري وجد مناهج الدول المجاورة أو البعيدة أخفّ من المناهج السورية الثقيلة، وقد سببت أحيانًا شجارات بين الطلاب الأتراك والطلاب السوريين الذين وجدوا المناهج التركية علكة، (أكلة جزور) فظنَّ الترك أنهم يسخرون منهم. الخدمة العسكرية في المنازح كذلك، لمن حصل على الجنسية، تشبه إجازة شاقة.

نعود إلى زميلي أبي عبدو الحلبي الذي عرف من أين تؤكل الكتف، ووعدني بالنجاح، كان قد سقط مرة واحدة في شهادة اللغة المستوى الأول، وهو شرط من شروط الحصول على الجنسية. أحضر لي كناشًا (نوطه)، وقال أدرسه ونجاحك من هذه الرقبة، والمقابل عشرة يوروات فقط، وهي أجور تصوير الكُناش. ودرسته ونجحت ولم يرسب منا سوى واحد فقط من الساموراي السوريين السبعة، بفرق علامات قليلة.

نجحت بفضل زملائي من أحفاد مخترعي الأبجدية الذين يلعبون بالبيضة والحجر، ويعرفون من أين تؤكل الكتف ولحمة الرأس.