محاكمات كوبلنز خطوة على طريق الألف ميل

2021.03.03 | 00:02 دمشق

53689287_101.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الحكم الذي أصدرته محكمة كوبلنز بتاريخ 24/2/2021 بحق أحد عناصر الأمن السوري المنشقين السيد إياد غريب مُرضياً لجميع السوريين، وقد أثار لغطاً وجدالاً واسعين عبر صفحات التواصل الاجتماعي. تبدو أسباب الجدل منطقيّة جداً إذا ما أخذناها من وجهة نظر القائلين بعدم تناسب العقوبة المفروضة مع فداحة وخطورة الجرائم المرتكبة في سوريا والتي ما زالت تُرتكب منذ اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011 إن لم نقل منذ انقلاب البعث في آذار عام 1963، أو من وجهة نظر المعارضين لملاحقة المنشقين عن جيش النظام السوري وأجهزته الأمنية المختلفة. لكنّ هذه الوجاهة تتقلّص إلى أن تصل حدّ العدم عندما ننظر إليها من وجهة نظر القانون والقضاء، ومن وجهة نظر حياديّة غير منخرطة في الصراع.

سنحاول في هذا الحيّز المختصر أن نسلّط الضوء على هذه الحجج ووجهات النظر، آخذين بعين الاعتبار الطبيعة القضائية للموضوع وأبعاده السياسية والاجتماعية بنفس الوقت.

 

القضاء الألماني

لا بدّ بداية من التأكيد على الثقة الكبيرة التي يحوزها القضاء في عيون الألمان والأوروبيين عموماً، ونحن بدورنا نؤكد على كفاءة النظام القضائي الألماني وعلى خبرة وحيادية ونزاهة القضاة الألمان، وهذا المدخل سيساعد كثيراً في وضع الحدود والفواصل بين التداخل الطبيعي للقانون والسياسة في هذا الملف الكبير الهام والحساس.

 

مبدأ الولاية القضائية العالمية

تنطلق المحاكمات من مبدأ الولاية القضائية العالمية الوارد في القانون الجنائي الألماني كما في غيره من القوانين الوطنية للعديد من الدول الأخرى، ويستند هذا المبدأ إلى مبررات أهمها عدم محدودية أثر الجرائم الدولية الخطيرة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية في أماكن ارتكابها، مما يفرض على الدول التضامن فيما بينها في إطار إنفاذ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهذا لا يقتصر على مساهمات الدول ضمن إطار القانون الدولي ومؤسساته فقط، بل يجب أن يتعدّاه إلى التزامات داخلية تتناسب وقدرة كلّ دولة على تحقيق متطلبات العدالة وإمكانياتها في هذا المجال.

تتحكم عوامل عديدة في لجوء الدول إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية لملاحقة ومحاكمة المشتبه بهم فيما سبق ذكره من جرائم، وغالباً ما تكون الاعتبارات السياسية ذات أولوية قصوى في فتح المجال من عدمه، كما تتحكم المصالح السياسية في مواقف الدول من قضايا قانونية وأخلاقية حسّاسة جداً. على سبيل المثال، ولتبيان مدى التداخل والتشابك بين السياسة والقانون الدولي، نورد معارضة ألمانيا من ضمن سبع دول حذت حذوها مسألة قبول فلسطين كدولةٍ طرفٍ أمام المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك معارضة كندا مسألة انضمام فلسطين لميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، رغم أنّ كلتا الدولتين من أهمّ ممولي هذه المحكمة ومن أكثر الدول احتراماً للقانون الوطني الداخلي والدولي.

 

السياسة والقانون

يوضح لنا ما سبق ذكره من أمثلة كيف أنّ السياسة ذات تأثير كبير على مسارات القانون حتى في الدول الديمقراطية، من هنا نجد أنّ الأجواء السياسية العامة والمواقف السائدة من الحالة السورية لعبت دوراً هاماً في فتح أبواب ملاحقة مرتكبي الجرائم ليس في ألمانيا فحسب، بل في السويد وفرنسا والنمسا وإسبانيا وغيرها من دول أوروبا الغربية، ولولا الموقف السياسي العام المتأثر باعتبارات وجوب احترام حقوق الإنسان لما رأينا هذه الملاحقات كما هي الآن. ويجب أن نوضح هنا أنّ تأثير السياسة يبقى محدوداً في المجالات العامة التي تسبق انطلاق العمليات القضائية بشكل فعلي، أمّا بعد ذلك تصبح هذه العمليات بمنأى عن أيّ تدخّل من قبل السلطات التنفيذية أو الأحزاب أو السياسة. ومردّ ذلك بكل تأكيد إلى عراقة المؤسسات القضائية واستقلالها وحيادها ونزاهة الكوادر القضائية كما أسلفنا.

 

الملاحقات القانونية

تدخل اعتبارات كثيرة في نجاعة عمليات الملاحقة القانونية لمرتكبي الجرائم المذكورة، منها توافر الأدلّة وإمكانيات الأجهزة القضائية وضمانات إنفاذ الأحكام حال صدورها وكثير من المسائل الفنيّة الدقيقة التي لا يمكن حصرها، كذلك تدخل اعتبارات كثيرة غير مرئية، منها قدرة الدولة ذاتها وقوّة اقتصادها، فلا يمكن أن نتوقّع من اليونان الغارقة في الديون مثلاً أن تحمّل خزينتها أو جهازها القضائي أعباءً هائلة كتلك التي تتكبدها ألمانيا في هذا الإطار، على الرغم من وجود إمكانية كبيرة لجمع الأدلّة من مصادر متعددة أهمها الضحايا والشهود من اللاجئين المقيمين على أراضيها.

 

المعايير القضائية

يجب أن نلاحظ هنا أنّ العدالة لا تأخذ بعين الاعتبار دين المشتبه بهم أو قومياتهم أو انتماءاتهم ومواقفهم السياسية، أو غيرها من الاعتبارات التي هي محلّ جدل بين السوريين، فلا ينظر القضاة إلى أنّ المتهم الماثل أمامهم منشقٌّ عن النظام أم لا، وهل هو من الجيش الحر أم من أحد التنظيمات الإرهابية أو الميليشيات الطائفية أو غيرها من المجموعات المسلّحة، لكنه ينظر إلى اعتبارات قانونية بحتة مثل طبيعة الجرم وأركانه وأدلّة الإثبات أو النفي والضحايا. لكن بالمقابل، وباعتبار أنّ القضاة ينظرون بجرائم معروضة عليهم من خارج بلادهم، وهي ذات طبيعة خاصّة، فلا بدّ لهم من التطرّق إلى السياق العام الذي حدثت به هذه الجرائم، مما يستدعي منهم بحث ومناقشة كثير من المسائل التي لا يتطرقون لها عادة في أحكامهم، مثل النظام السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد التي وقعت بها تلك الجرائم. من هنا نجد بعض الآراء التي تقول بأنّ هذه المحاكمة هي في جزء منها محاكمة لنظام بشار الأسد، فعندما توصف سوريا بأنه دولة تعذيب، يكون المقصود هو نظام بشار الأسد السياسي لا مؤسسات الدولة المجرّدة.

 

الحجج المتضاربة

يقودنا هذا إلى مناقشة بعض الحجج التي سيقت ضدّ القرار وعمليات الملاحقة من أساسها، وبعض الآراء التي رأت فيه طريقاً للخلاص من الهولوكوست السوري المُستدام.

يرى البعض أنّ ملاحقة الضباط والجنود المنشقين تصبّ في مصلحة نظام الأسد، لأنها ببساطة ستجعل مؤيديه وأركان حكمه أكثر التصاقاً به، مما يعني من حيث النتيجة إطالة عمره ومدّه بأسباب البقاء والاستمرار. لكن بالمقابل يرى آخرون أنّ الانشقاق بكلّ مستوياته لم يستطع أن يزعزع بنية النظام الصلبة أبداً، فالبنية المؤسسية لهذا النظام مركّبة بطريقة تجعله قائماً مهما حصل في أطرافه وجسده من تصدعات، فما لم تصل هذه الخروقات إلى العمود الفقري والجهاز العصبي للنظام ورأسه بكل تأكيد، لن يحصل فيه أيّ تغيّر يذكر.

يحاجج البعض أيضاً بأنّ كثيراً من المحسوبين على النظام موجودون في أوروبا ولم تشملهم الملاحقات، ويردّ عليهم رأي وجيه مقابل بالقول، إنّ هذا الأمر لا علاقة للقضاء به، بل هو مسؤولية الأفراد السوريين من الضحايا والعاملين في الشأن القانوني والسياسي والمدني وكذلك من المنظمات الحقوقية السورية وحتى الأجنبية العاملة في هذا الشأن، لأنّ القضاء هنا لا يعمل في مجالاته المعتادة والمدّعون العامّون لن يتحركوا من تلقاء أنفسهم لفتح هذه القضايا، ولا بدّ من تقديم الملفات إليهم عبر الطرق القانونية ووفق المعايير المعتمدة في الدولة المعنية حتى يتحرّك وينظر فيها.

يرى البعض الآخر أنّ العقوبة لا تتناسب مع الجرائم المرتكبة في سوريا، كما يرون أنّ ملاحقة بعض العناصر من رتب متدنية ليس أكثر من ذرّ للرماد في العيون، ويردّ عليهم أصحاب الرأي الآخر بالقول، إنّ المسؤولية الجنائية فردية لا جماعية، وإنّ المرء يُسأل عن مساهماته الجرمية فقط لا غير، ولو توفر للقضاء الألماني أو غيره في أوروبا الغربية ملفات بحق مشتبه بهم من القادة أو ذوي المسؤولية العليا، ولو تحققت الشروط القانونية لملاحقة هؤلاء المشتبه بهم هنا، لكانت العقوبات في حال الإدانة متناسبة بكل تأكيد مع ما يثبت بحقهم من جرائم، وهذا أمر لا شكّ فيه ولا جدال. مع ذلك ليس ثمّة مانع من التنبّؤ بإمكانية تخفيف الحكم أو فسخه كلياً وإعلان براءة المحكوم عليه، فما يراه قضاة الدرجة الأولى كافياً للإدانة قد يراه قضاة الاستئناف مشكوكاً فيه غير قاطع للشك باليقين، وهذا أمرٌ يعرفه جيداً العاملون في الحقل القضائي.

 

الولاية القضائية العالمية والعدالة الانتقالية في سوريا

ينظر بعض السوريين إلى أنّ المحاكمات وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية هو بداية الطريق إلى نهاية المحرقة السورية، ويعتبرون الحكم الصادر عن محكمة كوبلنز فتحاً غير مسبوق لطريق العدالة الانتقالية في سوريا، ويرى آخرون – ومن بينهم كاتب هذه السطور - أنّ هذا القول يعطي المسار القضائي المذكور حجماً أكبر من حجمه، ويبني عليه نتائج لا يمكن أن يحملها. أمر العدالة في سوريا أعقد بكثير من أن ينجزه مسار المحاكمات الجنائية وحده، فما بالنا بالمحاكمات المستندة إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية. نحن بحاجة لبرنامج عدالة انتقالية متكامل خاص بسوريا تكون المحاكمات أحد مفرداته، وهذا ما سيكون موضوع مقال آخر أكثر تركيزاً.

مع ذلك، يبقى الحكم المذكور خطوة على طريق الألف ميل، خطوة لازمة لكنها غير كافية.