محاصصة جغرافية وسلم أهلي

2019.12.24 | 22:41 دمشق

350.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عصرها الحديث لم تعرف سوريا شكلاً من أشكال الحروب سوى تلك التي شنها الاستعمار أو الدول العظمى ضدها، إضافة إلى عدائها الأزلي للكيان الإسرائيلي وولائها للقضية الفلسطينية.

تاريخياً أيضاً لم تكن سوريا أرضاً خصبة لاندلاع حرب أهلية ولم يحدث ذلك في عهد الاستعمار أو في مرحلة الانقلابات العسكرية التي عقبت خروجه، على الرغم من حالة الدويلات التي كان يسعى الاستعمار إلى فرضها جغرافياً.

لكنك الآن وبمجرد سؤالك لمحرك البحث عن معلومات تخص أي حرب أهلية -لا على التعيين-، يفاجئك بإظهار نتائج كثيرة تصف ما يجري في سوريا بأنه حرب أهلية وصراع مجتمعي.

يصف الإعلام العالمي أيضاً الحالة السورية بأوصاف مختلفة، منها النزاع

اختبر السوريون تفاصيل الحرب الأهلية وآلامها قبل أن يلصق العالم تهمتها بهم، سمعوا قصصها في التسعينيات من حكايات اللبنانيين في زياراتهم المتكررة، ومن العراقيين الذين سكنوا الشام والمدن الأخرى

أو الصراع أو الحرب في سوريا أو أسماء ومصطلحات كثيرة قد يتعذر على السوريين تقبلها أو فهم سببها.

اختبر السوريون تفاصيل الحرب الأهلية وآلامها قبل أن يلصق العالم تهمتها بهم، سمعوا قصصها في التسعينيات من حكايات اللبنانيين في زياراتهم المتكررة، ومن العراقيين الذين سكنوا الشام والمدن الأخرى في الفترة التي سبقت عام 2011.

العراقيون الذين سكنوا دمشق كانوا يضحكون عندما يسمعون في الإعلام أو على ألسنة سكان البلاد هذا المصطلح، وكانوا يروون حكاياتهم ويتندرون بها آسفين على أنفسهم بسبب الوضع الذي آلت إليه بلادهم.

مرة قال لي تاجر الأثاث المستعمل الذي اشترى حاجيات غرفتي الصغيرة التي سكنتها في دمشق، وأنا خارجة في رحلة نزوح جديدة إلى مكان أكثر أمناً:

"أنتم لا تعرفون شيئاً عن الحرب الأهلية، الناس التي تردد هذا المصطلح لم تختبر كيف من الممكن ألا تنام جماعة حتى تنتقم لابنها الذي قتلته جماعة أخرى، ولا تعرف كيف من الممكن أن يُغلق حيٌّ كاملٌ فقط ليصبح أهله من ملة واحدة، ولم يحدث أن حضروا حفلات تمثيل علنية بالجثث في وسط العاصمة، ما يحدث في سوريا خفية لزرع الفتنة بين الناس كانت البعض في بلادنا يعتبر أنه مدعاة للفخر ويفعله مجاهراً بانتقامه، لا يوجد في سوريا حرب أهلية ولو حاول العالم أن يقنعني بغير ذلك".

كان يقصد من كلامه ما لا يستطيع التصريح به بحكم إقامته في سوريا تحت قبضة أمنية عتية، استطعت أن أستنتج أنه يعرف الوضع السوري إلى حدٍ ما، وعنى بقوله أن ما يحدث هو حربٌ تشنها السلطة ضد الشعب تحت مسميات كثيرة من إرهاب أو من حرب أهلية، وهذا ما يعرفه كثيرون ممن عاشوا الوضع السوري وخبروه.

الغريب أننا السوريون لم نجد تفسيراً لماذا يصر العالم على تصدير ذلك المصطلح، ومحاولة أدلجة العقول بتكرار استخدامه إلا إذا كان ذلك فعلاً مدروساً من شأنه تغيير الأحداث وتزييف الحقيقة؟

إن اختيارهم هذا المصطلح وحده دون سواه يؤكد فكرة أنهم لا يريدون لسوريا أن تنهض من تحت هذا الدمار قبل عقود، وأنهم يودون أن يختفي السلم الأهلي المتعارف عليه بين السوريين، من أجل أن يستطيعوا الاستمرار بتنفيذ خطتهم في سوريا والمنطقة.

يتذرع المؤيدون للمصطلح بأن الثورة التي ندعي سلميتها تحولت إلى نزاع مسلح وشكلت فصائل سيطرت على مناطق عدة، ويتذرع مدعو خطر الإرهاب القائم في سوريا وجود تنظيمات داعش والنصرة وغيرها، ما استدعى تدخل دول مختلفة في الصراع على الأرض السورية بحجة إنهاء الأزمة على حد تعبيرهم وإنقاذ البلاد التي يخشون تفككها.

في الحالة السورية لم يكن الشعب على اختلاف طوائفه وانتماءاته أداة فاعلة فيما اتفق العالم على تسميته "حرباً أهلية"، بل اقتصر الوضع على محاولة تكرار السيناريو الاستعماري بترسيخ حالة الدويلات مرة أخرى، إذ سيطر النظام على مناطق جغرافية معينة بينما سيطرت الميليشيات التابعة للجماعات الإسلامية على مناطق أخرى، فيما انتهج الطرفان فرض السيطرة بالقوة وبأساليب وحشية من اعتقال وتخويف وتهجير ضد المكونات السكانية التي كانت تعيش تحت ظلهم منصاعين بذلك إلى غريزة البقاء ومن دون أن يكون أي منهم فاعلاً إيجابياً في الحرب الصورية التي يدعي الطرفان وحلفاء كل منهما وجودها.

للحق أن الحالة السورية فيها من التعقيد ما يجعل المسميات عصية عن وصف الوضع الراهن، لكن ذلك لا ينفي بشكل من الأشكال أن الانتفاضة الثورية كانت محقة بأسلوبها ومطالبها.

الملفت فقط أنك في حال حاولت أن تبحث عن مصادر معلومات أو في حال قررت الاستماع إلى أي من وسائل الإعلام الغربية يصادفك توصيفهم الفج بما يحدث بما أنه ليس سوى حرباً أهلية، متجاهلين بذلك الأسلحة التي وجهها الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون إلى الشعب في بداية الثورة وما بعدها، ومتعامين عن أن من يجب أن نطلق عليه صفة الإرهاب هو من يستخدم الأسلحة المحرمة دولياً ضد أطفال وعائلات لم تكن على صلة بالصراع الدائر أصلاً، ومتناسين أيضاً التغيير الديمغرافي الذي نفذته الدول بطرق مباشرة وغير مباشرة وبرعاية أممية.

فلو كان الوضع في سوريا يعد حرباً أهلية في الحقيقة لما اضطر طرفا الصراع المسيطرين على المساحات الجغرافية، إلى استقدام المرتزقة من إيرانيين وجماعة حزب الله أو شيشيان وأفغان لتنفيذ المجازر الذي لم يكن أحد من المكونات السورية مهما اختلف مع الآخر في الرأي أن ينفذها.

مما لا شك فيه أن المجتمع السوري بات مقسوماً إلى مؤيد للنظام الحاكم ومعارض له، وأن هناك أيضاً من بين المعارضين من يعارض الآلية التي اتجهت إليها الثورة السورية والتحولات التي أصابت المطالب الشعبية المحقة، لكن أحداً منهم لا يفكر بالانتقام

لقد شارك السوريون بمختلف طوائفهم في الانتفاضة التي اندلعت في عام 2011، لم تكن الثورة حكراً على أحد ولم يتردد الوطنيون بتأييدها بناء على اختلاف مللهم

من الآخر بطريقة الحروب الأهلية ولا في قطع أوصال الخريطة وتقسيمها ولا يحبذ أصلاً قيام نظام محاصصة طائفية، مثلما قد تقترح بعض السيناريوهات.

إن أكثر ما يمكن أن يعد مقتلاً للثورة السورية هو تغيير الحقائق وتزييفها وتسمية الأشياء بغير مسمياتها وتشويهها للوصول إلى نتيجة واحدة، وهي إسقاط الثورة التي لم ترق لأحد من اللاعبين الدوليين ولا لنظام الحكم السوري وحلفائه ومؤيديه من دول الجوار.

لقد شارك السوريون بمختلف طوائفهم في الانتفاضة التي اندلعت في عام 2011، لم تكن الثورة حكراً على أحد ولم يتردد الوطنيون بتأييدها بناء على اختلاف مللهم، وحاربهم في المقابل نظام الحكم الشمولي الرافض للتغيير بمختلف انتماءاتهم.

الحرب الحقيقة التي تخوضها سوريا اليوم هي نضال الثورة في مواجهة العالم الذي يحاول اقتلاعها من جذورها، وحرب إبعاد التهم الجاهزة التي يحاولون إلصاقها بها مثل الحرب الأهلية أو الإرهاب أو غير ذلك، أما الحرب الأهلية التي يتحدثون عنها ويتشدقون بوجودها في محافلهم ومؤتمراتهم الدولية، ليست سوى الحرب الذي يخوضها نظام الأسد ضد السوريين على اختلاف طوائفهم ممن يرفضون بقاءه في السلطة أو من يطالبون بتغيير ديمقراطي لا يتناسب وآلياتهم في الحكم.