مجموعة محاضرات أبو يزن الشامي في كتاب

2021.09.13 | 06:08 دمشق

adaat_fkryt.jpg
+A
حجم الخط
-A

تستطيع أن تُسقط إدلب من حساباتك حالياً، طالما أنها تحت الحكم الفعلي لهيئة تحرير الشام والسلطة الإدارية لحكومة الإنقاذ المتصلة بها. أما إذا لم تفعل فعليك أن تعاير الأمور فيها بشكل نسبي على الدوام. فتقول، مثلاً، إن معرض الكتاب الأول، الذي أقيم هناك خلال الأسبوع الماضي، أفضل من معرض سلاح، وأرقى من مهرجان للمنتجات الغذائية. وإنه مبادرة مدنية نظمتها دور نشر محلية يعمل بعضها في إدلب وأخرى في اعزاز، وإن جرى بالتعاون مع مديرية الثقافة في حكومة الأمر الواقع، التي تسيطر على المركز الثقافي في المدينة حيث أقيم المعرض الذي حمل تنوعاً، نسبياً ومحدوداً، بين كتب إسلامية من توجهات مختلفة، ومصادر شرعية أساسية لا يغلب عليها الطابع السلفي، ومراجع تقنية وعلمية، وروايات عالمية رائجة. مما بلغ مجموع 6000 عنوان، على ذمة منظمي المعرض، حوت عدداً غالباً من الكتب المستوردة من القطاع المحافظ في عالم النشر العربي، لكن أيضاً بضعة عناوين نشرتها الدور المشاركة لمؤلفين من المناطق المحررة، استضافتهم في حفلات توقيع تخللت جدول المحاضرات التي واكبت المعرض وشابهت فضاءه العام.

في هذا السياق فقط ينبغي أن نفهم أن الكتاب الأبرز الذي طُرح في المعرض كان ذلك الذي أصدرته دار «نقش» العاملة في إدلب، لأول مرة، بعنوان «إضاءات فكرية للشيخ أبي يزن الشامي». وهو مجموعة محاضرات ألقاها القائد الراحل في «حركة أحرار الشام»، في مناسبات مختلفة، قام بتفريغها وتنظيمها وإخراجها شيخ شاب هو معاوية بن محمد هكوش. والحق أن الكثيرين، نسبياً، تلقوا باهتمام جمع هذا التراث الموزع لأبي يزن خوفاً عليه من الضياع، بالنظر إلى اشتهاره، بين قادة الحركة، بأنه صانع فكرها ومجدده.

قرر العودة إلى البلاد والانتماء إلى جماعة سلفية جهادية صغيرة عرفت وقتئذ باسم «حركة فجر الإسلام» عملت في حلب وريفها

ولد محمد (الشامي، وهي كنية مستعارة) عام 1986 في دمشق، لعائلة من ريفها. قرأ الكتب الإسلامية باكراً واختار الدراسة في كلية الشريعة بجامعة دمشق حتى درجة الماجستير التي قطعها اعتقاله، عام 2010، وإيداعه في فرع فلسطين، حتى أفلحت مساعي أسرته بالإفراج عنه في أيار من العام التالي وتسفيره، بترتيبات والدية مماثلة، إلى الإمارات.

ومن الإمارات بدأت صلاته بالفصائل الإسلامية الناشئة تتوسع عبر المراسلة، فقرر العودة إلى البلاد والانتماء إلى جماعة سلفية جهادية صغيرة عرفت وقتئذ باسم «حركة فجر الإسلام» عملت في حلب وريفها. ولأنها ضمت عدداً من عتاة الصيدناويين الذين كانوا رفاق سجن مجموعة نظيرة كانت قد أسست «كتائب أحرار الشام»، فقد اتفق الفصيلان المتقاربان منهجياً، بالإضافة إلى مجموعتين إسلاميتين أخريين، على تأسيس «حركة أحرار الشام الإسلامية» في مطلع 2013. ورغم أن «الفجر» لم تستمر في الكيان الجديد إلا بضعة أشهر، انسحبت بعدها لتعود إلى العمل مستقلة، فإنها خلفت وراءها عدداً من أبرز الأسماء الذين رفضوا الانسحاب وأصبحوا من قادة «أحرار الشام»، ومنهم أبو يزن الذي أصبح أمير الحركة في حلب ونائب قائدها حسان عبود. ثم قتل في انفجار رام حمدان الشهير عام 2014، الذي مرت ذكراه قبل أيام، وأودى بأكثرية رجال الصف الأول للحركة.

يقول مطّلعون إنه كان من المتوقع لذلك الاجتماع أن يكون مفصلياً في مستقبل «أحرار الشام» التي كان يصطرع فيها اتجاهان؛ يريد الأول المحافظة على نهجها التأسيسي كجماعة محلية متأثرة بالسلفية الجهادية، في حين ينزع الثاني إلى التخلي عن هذا التيار نحو انتماء إسلامي أكثر قرباً من تدين «الحاضنة» الاجتماعية ومن شعارات الثورة. وعلى رأس الأخيرين كان أبو يزن الذي كتب على تويتر، قبل أيام من مقتله، مخاطباً أهل الشام: «نعتذر لكم لأننا أدخلناكم في معارك دنكوشوتية أنتم في غنى عنها، وأعتذر عن تمايزي عنكم وانغلاقي الفكري، بحجة أنني من السلفية الجهادية»، واعداً أن يكون المستقبل مختلفاً عن الماضي.

وقد اشتهرت هذه التغريدة فأصبحت أبرز ما يتذكره المتابعون الذين يريدون الاطلاع على مسيرة المراجعات التي قادت صاحبها من السجن بتهمة السلفية الجهادية إلى أن يستغفر الله على ذلك، كما قال في تغريدة أخرى. ومن المؤسف أن هذا السياق، الملحّ في مثل هذه الحالة، هو أهم ما يغيب عن الكتاب الذي بين أيدينا، إذ يقول معدّه إنه رتّب المحاضرات الواردة فيه بناء «على قرب المواضيع ببعضها». وقد أضاف إلى هذا أنه لم يذكر تاريخ أي من هذه الكلمات، ولا روابط لأصولها المرئية والمسموعة، مما كان سيتيح للقارئ المهتم فرصة تلمّس مسيرة التغيير بنفسه.

بخلاف المعتاد، تتجاور في الكتاب أقوال ابن تيمية، المرجع السلفي الأول، مع استشهادات من الشاطبي، مؤسس نهج «مقاصد الشريعة» الكلي والعاقل

ورغم ذلك فإن ما يظهر، من مجمل الكتاب، أن وصول السلفية الجهادية إلى صيغتها القصوى في دولة داعش هو أبرز الأسباب التي صدمت أبا يزن ودفعته إلى مراجعة المنهج. إذ تحتل الردود على الدواعش مساحة وافرة من الصفحات، ابتداء من إثبات انطباق وصف الخوارج عليهم، ونقض شرعية خلافتهم المزعومة، والتبرؤ من جرائمهم الشنيعة في سفك دم خيار المجاهدين فضلاً عن عامة المسلمين، وفق تعبيرات الشامي الذي كان مقرباً من أبو خالد السوري (محمد بهايا)، أحد الأفغان العرب المخضرمين الذين قتلتهم داعش. ومن جهة أخرى فإن الطبيعة الدفاعية للقتال في «الساحة الشامية»، وهو ما يجري التعبير عنه عادة بوصف «دفع الصائل» (المعتدي)، أتاحت لصاحب المحاضرات فرصة الاستناد إلى تراث تاريخي إسلامي عريض يستقطب، لهذا النوع من الجهاد، كل الطاقات البشرية المتاحة بغض النظر عن تطابقها في منهج واحد يزعم لنفسه الصفاء. لئلا يكون الأمر جهاد نخبة بل «مشروع أمة»، وهو الشعار الذي أبرزته حركة «أحرار الشام» ومارسته حين شاركت في تأسيس مظلة عريضة هي «الجبهة الإسلامية» التي أصبح أبو يزن نائب قائدها العام.

بخلاف المعتاد، تتجاور في الكتاب أقوال ابن تيمية، المرجع السلفي الأول، مع استشهادات من الشاطبي، مؤسس نهج «مقاصد الشريعة» الكلي والعاقل. وهذه من علامات حال انتقال لم يتبلور ومخاض لم يكتمل. إذ قطعه مقتل صاحبه وهو في الثامنة والعشرين، على قمة هرم حركة كانت كبيرة وحيوية وواعدة... نسبياً كذلك.