مجزرة تدمر ذاكرة من حديد ودم

2019.06.27 | 19:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مؤكدٌ أن الحكايات تشكل جزءا مهماً من ضمير الناس، ومخيالهم الجمعي، كما أنها مستودع الأحزان، التي ينكفئ إليها المرء، كلما ضاقت به المنافذ.

في ذكرى مجزرة تدمر، التي راح ضحيتها قرابة ألف معتقل سوري أعزل، تتراوح أعمارهم بين أربعة عشر سنة وثمانين سنة، يصدمنا تغافل المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، وهيئات الاتحاد الأوروبي المنافحة عن حقوق الإنسان، حيث لم تحظ تلك المجزرة التي أعقبتها مجازر متعددة، ربما يكون من العسير إحصاؤها، لم تحظ بقدرٍ وافٍ من الاهتمام الدولي، الذي كنا ننتظر منه كشعب صرخ مطالبا بالحرية، أن يقف فيضرب على يد المجرم الذي انتهك جميع الأعراف، والقوانين والمواثيق الدولية دفعة واحدة، دون أن يحاسبه أحد خلا بضعة بيانات وتصريحات فارغة، لا تقوى على طرد ذئب عن وليمته.

لقد ارتكب هذا النظام المجازر المتوالية، وهو مطمئن إلى صمم المجتمع الدولي، الذي لم يتناوله بأدنى مسائلة، وإن الضجيج الإعلامي الذي يعقب كل مجزرة، والذي بدأ بالخفوت شيئاً فشيئاً، لن يعدو عن كونه موجة صوتية عابرة، سرعان ما تتكسر على صخور المصالح، التي شبكها نظام الأسد مع الأخ الأكبر صانع القرار.

وإذا كانت مذبحة دير قاسم، التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية، عام 1957 قتلت 49 مواطناً فلسطينياُ، عملٌ إجرامي بامتياز، فما الرتبة الجرمية التي بوسعنا وصف نظام الأسدين بها، لقد تخطت الإجرام الإسرائيلي بآماد واسعة، فنظام الأسد ارتكب أكثر من عشرات المجازر من هذه الرتبة.

وليس بعيداً عن الأنظمة القمعية، إنها تشرعن في دساتيرها احتكار ممارسة العنف، والعقوبة والقتل واستئصال المعارضين، الذين يسهل شيطنتهم وتصنيفهم كإرهابيين، فهم يشكلون حالة كفر بكهنوت النظام الأمني، الأمر الذي يجعل حقهم ودمهم مستباحا.

وإذا كان هنري برغسون يرى في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" أن الحضارة الإنسانية رغم تطورها المضطرد، إلا أنها لم تعدُ عن كونها طلاءً أو قشرةً رقيقة، تغطي الطبيعة الأصيلة للإنسان البدائي والهمجي، في نزوعه للعنف وقتل واستئصال من يرى بهم خطراً، أو تهديداً لوجوده.

وبالرغم من أن المدنية قطعت شوطاً واسعاً، في ضبط هذه النزعات العنفية، وحصرتها في قبضة السلطة، كما أنها

لم يكن يدور بخلد السوريين يومها، أن نظام القمع الأسدي، يمكن أن يتمادى، ليرتكب مجزرةً في حق أبناء جلدتنا، كما تقول العرب

عملت كثيراً لتقييد هذه السلطة، وأنسنتها، إلا أن الأنظمة البدائية التي يحكمها العسكر عموماً، والتي تنتشر في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا وفي شطر واسع من آسيا ((والنظام السوري في طليعتها)) وبرعاية دولية من القوى العظمى، سرعان ما تتكشف عن روحها البربرية الهمجية، التي تعد البطش الدموي والقتل، والتعذيب في المعتقلات الأداة الأسلم، والأنجع في تأديب الشعوب وردعها.

في البدء كنا نسمع عن مجزرة هنا وأخرى هناك، يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، في أبناء فلسطين المحتلة.

ولم يكن يدور بخلد السوريين يومها، أن نظام القمع الأسدي، يمكن أن يتمادى، ليرتكب مجزرةً في حق أبناء جلدتنا، كما تقول العرب.

من عاصر أحداث 1980 في مدينة حلب، يذكر أن النظام عمد إلى إخراج ما يربوا على مئة شاب وطفل وكهل، من بيوتهم في حي المشارقة صبيحة العيد، وتحت سمع وبصر أهليهم قام بتصفيتهم رميا بالرصاص، ليعرف السوريون أي نظام يواجهون.

ومن عاصر معتقلات الثمانين الرهيبة، من قرننا المنصرم، يذكر كيف صمت العالم، عندما قام شقيق حافظ الأسد رفعت، قائد سرايا الدفاع بتجهيز ثماني حوامات، مدججة بالجنود والسلاح، فداهموا سجن تدمر الصحراوي، التي كانت أسواره تضم يومها أكثر من ألف معتقل تقريبا، جلهم معتقل على الشبهات، أو رهينة عن أحد ذويه المطلوبين للأمن.

كانت المجزرة في ليلة السابع والعشرين من حزيران، عام ثمانين وتسعمئة وألف، ودامت قرابة ثلاث ساعات، تم تصفية جميع من حوته زنازين ذلك المعتقل الرهيب، خلا بضعة أفراد لا يزيد عددهم عن خمسة وعشرين معتقلاً، كانوا محتجزين بتهمة الانتماء للبعث اليميني، الموالي لصدام حسين آنذاك. تم إفراغ مخازن من القنابل والرصاص، تكفي لإمداد جبهة قتالية لأيام عدة، وبعدها بأسابيع حين تم نقلنا إلى سجن تدمر، كانت روائح الدم وبقايا اللحم الملتصق بالجدران، تنبئنا عن حكاية من رحلوا وما ينتظرنا بعدهم.

وتلاها بزمن قصير بمجزرة مروعة في مدينة حماة، حيث ترجح التقديرات، أن النظام قتل من أبناء

ما يميز مأساتنا كسوريين أنه يتم تحضيرنا للتصالح مع قاتلنا وجزارنا وأن يعاد إنتاج سلطته ليرتكب ما يشاء من مجازر بحق السوريين طالما أن هذا يمنح امتيازات لمصالح وشركات الأخ الأكبر

حماة، ما يزيد عن أربعين ألف إنسان، لم يميز فيهم صبيا ولا طفلا ولا امرأة ولا شيخاً عاجزاً، بل أمعن في غيه، فعمد إلى تقطيع الكثير من الضحايا بمناشير الفولاذ، وعبث بأعضائهم، فكان يمنح مكافئةً تقديريةً، لمن يجمع أكبر عددٍ من الأعضاء الذكرية، أو الآذان أو الألسن المقطوعة.

ما يميز المجازر السورية عن سواها، أنها تجري أمام سمع العالم وبصره، كما أنها تحظى بقدر وافر من القلق، لدى الأمين العام للأمم المتحدة، وبتحفظ واستنكار دولي كبير، وبأمل أوروبي ألا تتكرر أشباه هذه المجازر مرة أخرى، وباشتراط أمريكي جاد، أن يقتصر تنفيذ هذه المجازر، على السلاح التقليدي والحربي دون السلاح الكيماوي، وبتأكيد روسي أن الضحايا هم من قاموا بالمجزرة وبتخطيط مسبق.

كما يميز مأساتنا كسوريين أنه يتم تحضيرنا للتصالح مع قاتلنا وجزارنا وأن يعاد إنتاج سلطته ليرتكب ما يشاء من مجازر بحق السوريين طالما أن هذا يمنح امتيازات لمصالح وشركات الأخ الأكبر.

ويبهرنا جيشٌ جرارٌ من الإعلاميين والموثقين، والنشطاء السوريين الأبطال، الذين يشكلون ظاهرةً غير مسبوقةٍ، في توثيق الجرائم والانتهاكات، فور حدوثها، ليقطعوا الطريق على أي مشكك، وليمنحوا المحافل الدولية ما يلزمها، لمحاسبة المجرمين بحق الإنسانية.

ولكن كما قال شاعرنا عمرو بن معد يكرب الزبيدي

لقد أسمعت لو ناديت حيا   ***   ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت     ***   ولكن أنت تنفخ في رماد