يربط الكاتب التشيكي ميلان كونديرا بين البطء والتّذكر في حين أنّه يجعل السّرعة مجالاً للنّسيان، وإذا ما حاولنا توظيف نظرته في قراءة ما تصطبغ به منطقتنا من أحوال لقلنا إن التّعذيب بوصفه بطئاً يهدف إلى خلق ذاكرة الرّعب وتمكينها وجعلها عصيّة على النّسيان.
وظيفة التّعذيب، على الرّغم من شناعتها، تبقى متصلةً ببناء حدٍ ومحدود من السلطات، وحتى حين يفضي إلى الموت فإنه يحتفظ بالمسار الذي تم قطعه للوصول إلى هذه اللّحظة ولا ينفيه. هكذا يبقى الجسد المعذب محتفظاً بقيمةٍ ما عند الجلاد بوصفه خزان ذاكرة الرّعب الّتي تُصنع سلطته من مادتها.
في القتل المباشر وغير المسبوق بتعذيب تلعب السّرعة وظيفة خلق النسيان، ولكن قد يمكننا تجاوز منطق كونديرا والتّأكيد على أن مفهوم علاقة السرعة بالنسيان نما بشكل هائل حتى سبق حدود تنظيره له في مرحلة التسعينات. السرعة تسارعت إلى الحد الذي لم تعد فيه تشير إلى النسيان ووظيفة المحو التي يؤمنها وحسب، بل تحوله مباشرة إلى قصة صلبة تحرسها كلّ السلطات، أي أنّها تكتبه وتكرّسه ولا تكتفي بالإحالة إليه.
مجزرة التّضامن التي نشرها موقع جريدة الغارديان البريطانية والتي تظهر عملية إعدام بدم بارد لمدنيين سوريين وفلسطينيين، وقوارب الموت الطّرابلسيّة التي تسبب فيها الجيش اللبناني بغرق عشرات المواطنين الفارين من جحيم البلاد معلمان بارزان على شكل جديد من السّلطة يتم فيه الانتقال من محدوديّة التّعذيب إلى مطلق القتل المباشر والمعدّ له مسبقاً وغير المرتبط بهدف سوى المحو التّام والممسرح للمقتولين وقصتهم، ولعلّ سرعة التنفيذ التي تطبع الجريمتين تؤكّد على أنّ قصة للنّسيان المطلق بدأت تُكتب بدليل التّحول في شكل الجريمة ومنطقها.
لا إجابة ممكنةً عن سؤال الوظيفة الّتي يقوم بها القتل في كل من الجريمتين؟ المقتولون في حي التّضامن كانوا يعتقدون أنّ العنصر الأسدي سيقودهم إلى بر الأمان أو أنّه سيحميهم، وهذا ما من شأنه إخراج فعل القتل من الحدود، وخصوصا عندما نستكمل تحديد ديكوراته ومعالمه من الإعداد المسبق لمكان يقع في قلب العاصمة إلى التّوقيت النّهاري وصولاً إلى المسرحية المقرونة بقبّعة الصّيد والضّحك وحث الضحايا على الموت السريع.
في مشهد زورق الموت الطرابلسي وبعد أن توحّدت شهادات الناّجين حول مسؤوليّة الجيش عن إغراق المركب، بدا وكأن هناك وظيفة تلعبها آلة السرعة التي يمتلكها الجيش وهي القارب السّريع الّذي اصطدم بمركب الهاربين حيث تمّ استعمال سرعته في خلق دلالة يأسٍ وجنون لدى الفارين.
سرعة المركب خلقت يقيناً بعدم القدرة على الفرار منه، فكانت ردة الفعل التي تبلورت في خطاب تلا حادث الإغراق تؤكّد أنّ قائد المركب قام بمناورات هدفها الفرار المستحيل فكان أن اصطدم بقارب الجيش كنوعٍ من تأكيد على هذه الاستحالة.
الفكرة التي تبرز هنا أنّ ركاب القارب لا يحق لهم التحكم بموتهم، يمكنهم إما الموت في الدّاخل أو في البحر غرقا، إذ إن الجيش قال بحتمية هذا السيناريو. ردود فعلهم اليائسة عجلت موتاً كان محتوماً، وتالياً فإن الجيش لم يفعل شيئاً ولا يمكن اتهامه لأنّه لا يمكن لأحدٍ أن يقتل الموتى.
الجريمة التي تتوحد معالمها في البلدين تفصح عن نزوع إلى الكمال، حيث تصبح أصلا (يسبق كل أصل) ولا يمكن تجاوزه
يفترض اللجوء إلى السرعة الفائقة كتبرير لما جرى أنّه لا مجال لتفحصه والنّظر إليه، إنه حدث يقع في العمى النهائي والتام، قد بات نسياناً مفتوحاً بمجرد ما سرد الجيش قصته عنه. المجزرة إذاً لم تحدث وما تبقى منها هو قصتها الّتي يسردها وحسب، وهي قد باتت سحيقة وغابرة. لا نسيان محايثا للحدث إذا صح التعبير بل تاريخ للنسيان يخرجه مباشرة من علاقته بزمنه.
الجريمة التي تتوحد معالمها في البلدين تفصح عن نزوع إلى الكمال، حيث تصبح أصلا (يسبق كل أصل) ولا يمكن تجاوزه، ولعل تحالفها مع منظومة شرعنة وإعادة إنتاج نظام الأسد وظله اللبناني في إطار دولي وإقليمي، يشير إلى أن المجزرة المطلقة والّتي لا يمكن التّفوّق عليها ومضاهاتها باتت العنوان الصانع للشرعية، وأنّ الأسد الذي كان قد فقد أبده لأنّ ما يمثّله قد سقط من زمان العالم يعود ليقيم في متنه.
إذا اجتهدنا في تفسير الأسباب التي دفعت بالنّظامين الدَّولي والعربي إلى تطويب الأسد كرمز للشّرعيّات المستحيلة المتخلّقة من المجازر المطلقة فلن يكون أمامنا سوى استنتاجٍ وحيدٍ يرتبط بنجاحه في دفع الجريمة إلى حدٍ لا يمكن تجاوزه، فأصبح أصلاً ومرجعاً نهائيّاً في هذا الصّدد، وبات كلّ راغب في استجلاب شرعيّة عبر المجزرة والإبادة لا يستطيع إلا أن يكون أسديّ المنشأ والرّوح والانتماء.
ابتكر الإجرام الأسديّ حدوداً مفتوحة لا تُطال للجريمة ويستعدّ النّظام العالميّ للاعتراف به بوصفه صاحبها ومبدعها، ولكنّه يجتهد في أن يمنح هذا التّمكين اسما حركيّا ساخراً هو التّسويات، ويصرّ أن يقرن به وصفا كاريكاتوريّا وهو (الكبرى).
في ظلّ التّسويات الكبرى المنتظرة ستسود البيولوجيا وتنتهي السّياسة وتبقى صيغة معينة من الدَّولة مفرغة من المعنى والدّور بحيث تتحول إلى مؤسّسة إغاثيّة كبيرة.
الجيوش والأجهزة الأمنيّة والرّسميّة تكمن مهمتها في منع الفارين من الموت من الهرب وقتلهم هنا في مكانٍ صار حفرةً للجريمة وزمنها، وفي منع دمائهم من تلويث خريطة العالم. عنوان شرعنة الأسد يكمن في تحويل الجغرافيا إلى زمنٍ للموت المتواصل والّذي سيبقى على الدّوام وإن تغيّر شكله.
هل من قبيل المصادفة كلّ هذه التزامنات المرعبة بين ظهور فيديو مجزرة التضامن، ومنع الجيش اللّبناني لحشد من السّوريّين واللّبنانيين والفلسطينيّين، الذين يشكلون كتلة تمثّل شعوب المنطقة، من الفرار من الجحيم، بقتلهم غرقاً؟ وكذلك إعلان الأمن العام اللّبنانيّ عن التّوقف عن إصدار جوازات السّفر، بما يعنيه ذلك من تكريس البلد كمقبرة نهائيّة ومطلقة؟ هل هذه مجرد مصادفات؟
خرجت المجزرة إلى النّور ولم يختل العالم، بل يمكن القول بمرارة إنّ سبب ظهورها وتوقيته يرتبطان، على الأرجح، بانعدام تأثيرها
رمزية فيديو التضامن أنّه حدث في المكان العام والمعروف والذي كان سابقا يحتفي بأنّه جزء من عاصمة تؤمن أنّ تاريخها سيدافع عنها، وأنّ العالم لا يمكنه احتمال أن يصبح حي يقع في قلبها ميدان مجزرة، وأن خروج توثيق للمجزرة إلى النّور لن يعني سوى أن العالم لا يمكنه الانتظام إذا لم يقتص من مرتكبيها الواضحين دفاعاً عن نفسه وعن قيمه. خرجت المجزرة إلى النّور ولم يختل العالم، بل يمكن القول بمرارة إنّ سبب ظهورها وتوقيته يرتبطان، على الأرجح، بانعدام تأثيرها.
من المحتمل أن يُقتل أمجد اليوسف أحد جَلاديْ جريمة التّضامن أو أن يختفي، وكذلك قد يفتح الجيش اللّبنانيّ تحقيقاً في الحادث البحري ويصل إلى تحميل المسؤولية لشخصيّات هامشيّة!
ما يجب أن نعرفه أن مثل هذه السيناريوهات الّتي يكثر الحديث عنها لا تعني الخوف من العقاب أو رغبة في الحكم عبر القانون، أو من تحولات تطول بنية التّشريع القائمة، بل تصب في قلب منطق تمكين الجريمة بتحويلها إلى أثر مفتوح. الفاعل، مع هذا السياق، ليس مهمّاً بل تعود الأهميّة كلّها إلى الفعل نفسه، وبذلك قد يكرس تغييب الفاعلين الجريمة، ولعلّ هذا الأمر تحديدا ما يجدر بالسّوريّين واللّبنانيّين تذكّره والانتباه إليه مع سخافة الفاعلين وهشاشتهم مقارنة بصلابة الجريمة وتمكنها.