يمكن فهم الرهان الإسرائيلي على روسيا، في لجم تمرير السلاح الإيراني إلى حزب الله، على أنه تعبير عن رغبة إسرائيلية في خفض التصعيد على الجبهتين اللبنانية والسورية.
هذه الرغبة الإسرائيلية تلتقي مع رغبة إيرانية مماثلة أيضاً، بصورة تجعل موسكو وسيطاً بين الطرفين، وضامناً لتفاهم مرتقب. لكن من غير المتوقع أن يطول أمد الاستقرار النسبي الناجم عن هكذا تفاهم، قبل أن تتكرر مجدداً، مخرجات تفاهم عام 2018 في الجنوب السوري، والتي أثبتت محدودية القدرة الروسية على ضبط النفوذ الإيراني في سوريا.
وفيما بدا، قبل شهر فقط، أن روسيا ترحب بإفساح المجال لصراع إيراني – إسرائيلي مفتوح، بالجنوب السوري، عبر إخلاء 3 نقاط مراقبة لها، على تخوم الجولان المحتل، تعكس روسيا اليوم مقاربتها للمشهد، لتنخرط بصورة عكسية، وتعيد تفعيل نقاط مراقبتها، وترفعها من 8 إلى 9 نقاط، وبترويج إعلامي غير مسبوق من جانب النظام السوري ذاته.
وفيما يمكن فهم دوافع هذا الانخراط الروسي المفاجئ، والتجاوب الإيراني المرتقب معه، يبدو أن دوافع الرهان الإسرائيلي المتجدد على موسكو، غير مفهومة. فروسيا هي ذاتها التي تعهدت عام 2018 بإبعاد الإيرانيين وأذرعهم عن هضبة الجولان المحتل لأكثر من 80 كيلومتراً. ونفذت ذلك بالفعل، لفترة وجيزة، قبل أن تتراخى القبضة الروسية في تلك البقعة الجغرافية، لصالح الإيرانيين، عن قصدٍ أو عن عجز. إذ ثبت لاحقاً أن إيران تمكنت من إنشاء بنية تحتية غير هيّنة لنشاطها الميداني. فإن كانت روسيا غير موثوقة –أو عاجزة- في ضبط تلك المساحة الجغرافية المحدودة المتاخمة للجولان المحتل، وإخلائها من أي نشاط إيراني، فكيف يمكن الرهان عليها في ضبط الحدود السورية – العراقية، والطرق التالية لها، وصولاً إلى الحدود اللبنانية، والتي تمر عبرها أسلحة وذخائر إيرانية إلى حزب الله.
يبدو أن الإسرائيليين أوضحوا لنظرائهم الروس أنه قد يتحول إلى اجتياح واسع النطاق للجنوب السوري.
وفي محاولة لتفكيك الرهان الإسرائيلي المتجدد على موسكو في سوريا، يمكن الإشارة إلى خيارات بديلة لا بد أن المسؤولين الإسرائيليين لوحوا بها لنظرائهم الروس خلال جولات الحوار التي دارت مؤخراً. ووفق المعلومات المتوافرة، تبدو وكأن موسكو من كانت صاحبة المبادرة، إذ أوفدت فريقاً رفيع المستوى إلى إسرائيل في 24 تشرين الأول الفائت، قبل أن يرد وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، تلك الزيارة. الوزير المشار إليه يوصف بأنه كبير أمناء سرّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. كما أنه يدير المفاوضات الجارية برعاية أميركية بخصوص اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله في لبنان.
وقد تبدت بعض الخيارات الإسرائيلية البديلة خلال شهرين منذ 23 أيلول الفائت. إذ كثّفت إسرائيل ضرباتها على مصالح ومنشآت وكوادر إيرانية وأخرى تابعة لحزب الله في سوريا، بصورة نوعية، متجاوزةً خطوطاً حمراء سابقة. من أبرزها ضرب مستودع أسلحة داخل حرم مطار اللاذقية الدولي، على مقربة من قاعدة حميميم العسكرية الروسية، مطلع الشهر الفائت. وكذلك، تكثيف استهداف المباني السكنية في المزة وكفرسوسة، بقلب العاصمة دمشق. ناهيك عن تجاوز خط فصل الاشتباك المرسوم منذ العام 1974، على تخوم الجولان المحتل، عبر توغل عسكري برّي، ما يزال محدوداً حتى الآن، لكن يبدو أن الإسرائيليين أوضحوا لنظرائهم الروس أنه قد يتحول إلى اجتياح واسع النطاق للجنوب السوري، وفق ما توحي به تصريحات مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، قبل نحو أسبوعين.
حالما تضع الحرب الإسرائيلية في لبنان، أوزارها، قد نراهن على فترة قصيرة من الاستقرار النسبي، قبل أن تُستعاد قواعد اللعبة السابقة، والتي حكمت علاقات الأطراف جميعها، في المشهد السوري.
وبقدر ما تدفع هذه الخيارات الإسرائيلية البديلة، كلاً من إيران ونظام الأسد، وكذلك الروس، للبحث في سبل خفض التصعيد، تجعل أكلافها الباهظة، وآفاقها غير الواضحة، صانع القرار الإسرائيلي راغباً بوضع حدٍ لهجومه غير المسبوق الذي بدأ على لبنان قبل شهرين. مما يجعله في طريقه للارتداد إلى استراتيجية "جز العشب"، على الجبهتين السورية واللبنانية، بدلاً من الذهاب قدماً في استراتيجيته التي طبقها في غزة، بعيد 7 تشرين الأول 2023، والقائمة على مبدأ اقتلاع حركة حماس وإنهائها تماماً. فتطبيق هذه الاستراتيجية في الجبهتين اللبنانية والسورية يحتاج كلفة أكبر ومدداً زمنية أبعد.
من هذه الزاوية يمكن فهم كيف تراهن إسرائيل مجدداً على روسيا، في تنفيذ هدفٍ أوسع من ذاك الهدف الذي عجزت، أو لم ترغب، في تنفيذه، قبل ست سنوات. لذا، حالما تضع الحرب الإسرائيلية في لبنان، أوزارها، قد نراهن على فترة قصيرة من الاستقرار النسبي، قبل أن تُستعاد قواعد اللعبة السابقة، والتي حكمت علاقات الأطراف جميعها، في المشهد السوري. فإيران ستحاول ترميم قوة أذرعها في لبنان وسوريا. ونظام الأسد سيضع قدماً مع الإيراني، وأخرى مع الروسي في سياق تفاهماته مع الإسرائيليين. فيما ستحظى إسرائيل بحرية الحركة المُستدامة في الأجواء السورية، لتستهدف أية أهداف مرتبطة بإيران في سوريا. أما روسيا، فستفشل مجدداً، برغبتها، أو قسراً عنها، في تنفيذ ما ستعد به. لترجع إسرائيل إلى استراتيجية الردع المؤقت والاستنزاف الصبور لخصومها، لتقليل قدرتهم على إلحاق الأذى بها. ولتبقى سوريا ساحة لـ "جز الشعب" الإيراني، كلما نما أكثر مما يجب.