مجاعة مفتعلة وموجة تهجير جديدة في ولاية الأسد الرابعة..

2021.09.23 | 06:08 دمشق

2021-09-14t113037z_724755842_rc2npp9q40no_rtrmadp_3_syria-security-un_mkhym_alyrmwk.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا حديث للسوريين المتبقين في مناطق سيطرة الأسد إلا عن أمرين، أولهما البحث عن وسيلة لتأمين قوت يومهم ولو في حدود الكفاف، والثاني يتعلق بالهاجس الوحيد الذي يشغلهم اليوم وهو محاولة إيجاد طريقة لمغادرة سوريا.

في الحالتين نجدنا أمام نوع من التهجير الطوعي ـ القسري، بمعنى أن الأسد ومخابراته وجيشه لا يستخدمون وسائل عسكرية ضد من تبقى تحت سيطرتهم، كالبراميل المتفجرة التي اعتمدوا عليها بشكل رئيسي في بداية سنوات التهجير، ولكنهم يستخدمون براميل من نوع آخر، براميل اقتصادية، براميل من الإفقار والتجويع واليأس تجبر من تبقى من السوريين أن يختاروا الرحيل.

انسداد الأفق..

ربما سيخوننا التحليل إن رأينا في الفقر والجوع وحدهما سبباً رئيسياً لموجة الهجرة الجديدة، فالمسألة أكبر من ذلك بالنسبة للسوريين القابعين تحت سيطرة الأسد والذين لم يكونوا ينوون مغادرة سوريا لأي سبب، لقد صبر هؤلاء عشر سنوات، صبروا على "الحرب"، على القصف اليومي، على التفجيرات، على الصواريخ والقذائف مجهولة المصدر والتي كانوا يعرفون جيداً أنها قذائف سياسية تصب في مصلحة الأسد، صبروا على كذب النظام وإعلامه وسخريته منهم، صبروا على التشبيح والتعفيش والتجاوزات وفرض الإتاوات، صبروا على الإيراني وتدخلاته وميليشياته وطائفيته، صبروا على الروسي وكذبه ودجله، صبروا على الإسرائيلي وقصفه المتواصل، صبروا على الإهانة التي يسببها صمت النظام عن قصف إسرائيل لسوريا، ابتلعوا الإهانة في أن يحكمهم مثل هذا الرئيس الأكذوبة، وأن تتحكم بهم أجهزة مخابراته بكل قسوتها وغلوائها وتجبّرها وتسلطها، صبروا على كل ذلك ولا يزالون مستعدين للصبر مدة أطول لو كان ذلك الصبر سيُفضي يوماً ما إلى تحسن أحوالهم والبدء في التعافي.

الولاية التعسفية الرابعة..

غير أن الهجرة بدأت تسيطر على تفكير هؤلاء كحل وحيد بعد أن تيقّنوا من انعدام أي أمل، أي أفق، أي مستقبل في سوريا، ليس لهم وحسب، بل ولأبنائهم وأحفادهم أيضاً، وخاصة بعد انتهاء "الحرب" فعلياً، ونجاح الأسد في ولايته التعسفية الرابعة دون أن تظهر أي دلائل لحياة أفضل، بل إن كل المؤشرات تقود إلى تدهور مستمر ليس على المستوى الاقتصادي وحده، بل على مستوى القمع والوحشية في التعامل مع الشعب والإهانة المتعمدة للمواطن وحتمية استمرار ذلك طالما استمر الأسد، وبات من الواضح أنه سيستمر..

كل من بقي في مناطق سيطرة الأسد يعي جيداً لعبة النظام، ولكن معظم هؤلاء ابتلعوا غصتهم لقاء البقاء في مدنهم وقراهم، فضلوا ربما الذل في بلدهم على ذل الهجرة والنزوح، كثيرون من هولاء هم ممن يريدون فقط أن يعيشوا، وممن ليس لهم همٌّ سياسي أو حتى وطني، كثيرون منهم كانوا متعاطفين مع الثورة أو مشاركين فيها أو مباركين لها، ولكنهم انسحبوا إما بسبب أخطاء المعارضة أو بسبب ركوب المتطرفين على الثورة، أو بسبب القمع الوحشي للنظام وانسحاب المجتمع الدولي من المشهد السوري وترك الشعب فريسة لوحوش المخابرات والجيش والشبيحة، معظم هؤلاء ارتضى أن يلعب دور المؤيد، وبذل جهوداً كبيرة ليقنع النظام أنه معه، ولكن في النهاية بات هؤلاء متأكدين من عبثية الاستمرار فراحوا يبحثون عن بدائل مضحين بعشر سنوات من الصبر وانتظار مرحلة باتوا متيقنين تماماً بأنها لن تأتي.. 

حلم الكفاف..

حل الهجرة يبدو إذن الحل الأمثل بالنسبة للغالبية العظمى المتبقية في مناطق سيطرة الأسد، بمن فيهم حاضنته الشعبية ذاتها، فباستثناء أصحاب الامتيازات، نجد أن نسبة كبيرة من أهل الساحل تفكر أيضاً بالمغادرة بمن فيهم الفقراء الذين لا يمتلكون أجرة المهرب ولكنهم باتوا على استعداد لبيع منازلهم وكل ما يملكون في سبيل إيجاد مكان يضمن لهم حداً أدنى من الحياة، وكذلك المزارعون الذين لا يتقنون أي مهنة أخرى باستثناء الزراعة باتوا يحلمون أيضاً بالخروج دون التفكير في التبعات، فأياً كانت تبعات الخروج تبقى أسهل بكثير من شرط البقاء داخل سوريا، كل هؤلاء بات حلمهم الوحيد هو المغادرة إلى أي مكان في العالم.

الهجرة بدأت تسيطر على تفكير هؤلاء كحل وحيد بعد أن تيقّنوا من انعدام أي أمل، أي أفق، أي مستقبل في سوريا، ليس لهم وحسب، بل ولأبنائهم وأحفادهم أيضاً، وخاصة بعد انتهاء "الحرب" فعلياً، ونجاح الأسد في ولايته التعسفية الرابعة

لقد بات إحساس السجين هو الإحساس الوحيد المهيمن والمسيطر على من تبقى من السوريين داخل مناطق سيطرة النظام، ولذلك فإن مغادرة هذا السجن باتت حلماً لا يشترط مكاناً بديلاً، هو حلم بالخروج فقط، حلم بالانعتاق، بالحرية، وهي ليست الحرية التي بحثت عنها الثورة، وإنما بالنسبة لهم هي حرية اللقمة، حلم رغيف الخبز، حلم الحصول على جرة الغاز، باختصار، حلم الكفاف.

مجاعة متعمدة وتهجير قسري ـ اختياري..

رغم حالة الحصار وقانون قيصر واقتصاد ما بعد الحرب وكل الشماعات الأخرى التي يعلق عليها النظام فشله الاقتصادي ويجد فيها التبرير الوحيد أمام جمهوره لعجزه عن تحقيق الحد الأدنى من المعيشة للسوريين المقيمين في مناطق سيطرته، إلا أن الحقيقة التي لا تخطئها عين المتعمق هي أن النظام لا يسعى لحل المشكلة الاقتصادية للمواطنين، لأنه من ناحية لا يعدها مشكلته، وبالتالي يجد نفسه ليس معنياً بها، ومن ناحية أخرى وهي الأهم، وهي النقطة التي تغيب عن كثيرين، أن مصلحة النظام المتقاطعة مع استراتيجية إيران، والمتطابقة مع مخطط التهجير، تقتضي أن يُبقي النظام على حالة التردي الاقتصادي والاجتماعي والأمني حتى وإن كان قادراً على حل كل تلك المشكلات، وهو معني أيضاً بتأكيد غياب الأفق وضياع المستقبل وذلك لدفع كل من هو قادر على المغادرة ودون تردد، ويخطئ كثيراً من يعتقد أن النظام يستثني أتباعه من هذا المخطط التهجيري، يخطئ تماماً من يعتقد أن النظام يحترم أتباعه، بل على العكس تماماً، فهو يحتقرهم أكثر من احتقاره لمعارضيه، هو يعلم تماماً أنهم يؤيدونه عن مصلحة أو خوف وليس عن قناعة..

لقد شهدت الفترة الأخيرة إقبالاً منقطع النظير على رحلات الطيران المتجهة إلى القاهرة، وربما لا يستطيع السوري أن يجد مقعداً على تلك الرحلات إلا بعد عدة شهور، ذلك أن القاهرة خفضت ثمن الفيزا، وها هي دولة الإمارات تخفف من شروط الحصول على الفيزا أيضاً، مما سيؤدي إلى خروج للسوريين ربما يوازي عدد من خرجوا في السنوات السابقة، الأمر الذي يمكّن إيران من المضي قدماً بمشروعها في الاستيلاء على المنطقة، في حين يبقى الأسد وأتباعه مصرين على ترديد شعارات الانتصار..

المفارقة التي لا يمكن أن تغيب عن عين المراقب هاهنا هي أن معظم، بل وربما كل السوريين القاطنين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لا يفكرون بالهجرة رغم أن أحوالهم المعيشية والاقتصادية ليست بحالة مثالية، ولكنهم قادرون على العمل بالحدود الدنيا ولديهم أمل حقيقي في مستقبل جيد، إنها فعلاً مفارقة أن يتطابق شعار حملة الأسد الانتخابية (الأمل بالعمل) مع حالة المناطق الخارجة عن سيطرته، في حين يبقى مجرد شعار في مناطق سيطرته