مثلث الحزن.. العالم كما نراه بلا فلتر

2023.01.31 | 07:20 دمشق

مهرجان كان
+A
حجم الخط
-A

في دورته الأخيرة، قلد مهرجان كان السينمائي، المخرج السينمائي السويدي روبن أوستلند السعفة الذهبية للمرة الثانية في دورته المنعقدة في شهر أيار 2022، و بذلك أصبح روبن أوستلند هو تاسع مخرج سينمائي يتقلد السعفة الذهبية مرتين، مع قامات سينمائية كبيرة من جنباً إلى جنب مع: فرانسيس فورد كوبولا وأمير كوستوريتسا ومايكل هاينيكي.

في فيلمه المعنون (مثلث الحزن)TRIANGL OF SADNESS يستعرض المخرج كعادته عبر قصة تبدو يومية ومعاشة، أكبر وأضخم المشكلات الجدلية في العالم المعاصر، ففي افتتاحية جذابة ومشوقة، وفي مشهد طويل تتداعى أحلام المراهقين أمام وكالات الأزياء وآلية التسليع البشري للحلم وللجسد الإنساني، مشهد بإيقاع سريع تمتزج فيه الاستهلاكية مع الحلم البشري، حيث يفقد فيه البطل وتحت إصرار اللجنة التي تنتقي العارضين، مثلث الحزن الذي يتربع بين عينيه، ليتحول إلى آلة ضاحكة مبرمجة،  ليخرج إلينا في نهاية المشهد بطل الفيلم: كارل.. الذي سيكون أحد أبطال الفيلم.

في الفصل الثاني للفيلم والمعنون بـ"كارل ويايا"، نتعرف إلى الثنائي الشاب اللذين تربطهما علاقة حب، ولكن الخلافات الغريبة بينهما تفتح شجاراً عجيباً، شاب وشابة غاية في الوسامة والجمال، يجلسان في مطعم راق يتشاجران حول أن الحبيبة يايا قد وعدته بأنها ستقوم بدفع الفاتورة، لأنها وعدت بذلك، يتطور الحوار ليتخذ بينهما صيغة حادة جداً، فيايا تكسب من النقود أكثر من كارل، ومع ذلك هي تطلب منه أن يدفع الفاتورة، لأن العرف يقول هذا بناء على أنه شاب، وحينما يواجهها بوعدها، تغضب وتغادر المطعم، في هذه اللحظة يطالبها كارل بالمساواة التي تدعو بها النساء في كل مكان، والمساواة برأيه هي بأن تدفع هي الفاتورة، إذ إنه قام بدفع حساب آخر ثلاثة مطاعم جلسا فيها..بينما تتهمه يايا بأنه مادي ويبحث عن النقود، فيغضب أكثر، ويصرخ ويغادران المطعم بعد أن يدفع هو الحساب، إذ إن بطاقتها البنكية لا تعمل...يجادل كارل في أن المساواة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون شاملة وكاملة، في كل المجالات، لدرجة أن المشاهد قد تنتابه ضحكة سخرية من الطريقة الكوميدية التي يطلب فيها كارل المساواة من حبيبته، التي تخبره في لحظة الاعتراف بأنها لم تدفع الفاتورة لأنها كأنثى تخشى في حالة حملها بطفل منه وعدم قدرتها على العمل أن تحتاج للنقود التي ستكون ضماناً لها في حياة كريمة..جدل إنساني عميق في حوار بسيط و حاد وأحياناً من دون تمهيد..

لينتقل الفيلم بنا إلى يخت سوبر فاخر، في قلب اللامكان، حيث وصل الشابان إلى اليخت في بطاقات دعوة مجانية لأن يايا هي مؤثرة ( إنفلونسر) مشهورة جداً، مشغولة طوال الوقت بالسوشيال ميديا، وقد تأتيها دعوات مشابهة دوماً..في ذلك اليخت حيث تختلف عوالم الفيلم تماماً، ونصبح أمام مكان تجتمع فيه نماذج عجائبية من البشر من كل أرجاء العالم ومن مختلف شرائح المجتمع في العالم، من أثرياء الحرب الذين يبيعون السلاح إلى أثرياء المصادفة الذين بنوا ثرواتهم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، إلى ثريّ وحيد بائس يبحث عن رفقة امرأة، إلى طاقم السفينة اللاهث خلف النقود، الذين تأتيهم تعليمات صارمة بوجوب إرضاء الزبائن الأثرياء مهما كانت طلباتهم، حتى لو طلبوا تنظيف الأشرعة التي فوق المركب، دون أن يكون في المركب أشرعة أصلاً، فهو مركب بمحرك حديث.

تتفاوت رغبات الأثرياء من ضيوف اليخت السياحي، ونستعرض معهم أشكالهم التي يبدون فيها عجائز متقاعدين بسطاء، ولكنهم يملكون ثروات لا يمكن تصديقها، "ملك البراز"، الذي تمكن من بناء امبراطورية من الأسمدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي،  وآخر ملك الأسلحة الأوتوماتيكية وزوجته، عجوزان بسيطان يبحثان عن قضاء عطلة هادئة وممتعة فوق هذا اليخت، وذاك ملك الاتصالات الوحيد من دون حبيبة.

لنتعرف لاحقاً إلى الكابتن الذي يقود السفينة الفارهة الخدمات، الماركسي الاشتراكي، الذي يقضي ثلث الرحلة مختبئاً في غرفته وهو يعاقر الويسكي في عبثية مدمرة.

يُصرّ الكابتن على أن يقيم العشاء الرسمي لليخت ( عشاء الكابتن) في يوم يخبره فيه مساعده داريوس ومساعدته بأنه يوم عاصف، وبالفعل يقام العشاء، ونشاهد جميع أصناف الطعام الفاخرة التي لا تقدم إلا في مناسبات مشابهة، قنفذ البحر بصلصة المانغا، ومحار من المحيط الهندي، هلام البحر بصلصة الكيوي..في مشاهد تتغلب الكوميديا السوداء فيها على الواقعية، فعوالم الأثرياء في مثل تلك اليخوت تبدو سوريالية أكثر من كونها معاشة بالنسبة لباقي البشر، وفي خضم كل تلك الطلبات الغرائبية، نجد الكابتن الماركسي أمام طبقه الأكثر غرابة فهو لا يتناول أطعمة هؤلاء الأثرياء، وإنما يطلب فقط ( الهامبورغر الأميركي مع البطاطا المقلية) ..وما هي إلا لحظات حتى تهب العاصفة ويتمايل اليخت بشكل هائل، ويبدأ جميع الأثرياء بالإقياء نتيجة لإصابتهم بدوار البحر الحاد، فيتحول العشاء الراقي على ظهر اليخت الفاخر إلى مهرجان من السوائل التي تخرج من معدات الأثرياء، الشامبانيا بدل الماء وعجل البحر مكان اللحم التقليدي.. يخرج الجميع ليبقى الكابتن الماركسي السكير، برفقة ملك البراز كما يسمي نفسه، الملياردير الروسي ليلعبا البوكر وبقية ألعاب السكارى بقية الليلة، ليتوّج مشهدهما في إمساك الملياردير السكران بميكروفون الإذاعة الداخلية في اليخت ليبدأ بمناظرة سياسية مع الكابتن الماركسي، في مشهد عبثي سوريالي ساخر.

ماركسي أميركي يناظر روسي رأسمالي، إذ يبدأ الروسي بإنذار الركاب بأن هذا المركب سيغرق ولا يمكن له أن يستمر لسبب بسيط أن قائده "ماركسي عفن"

ماركسي أميركي يناظر روسي رأسمالي، إذ يبدأ الروسي بإنذار الركاب بأن هذا المركب سيغرق ولا يمكن له أن يستمر لسبب بسيط أن قائده "ماركسي عفن"، ليختطف الكابتن الميكروفون ليشتم الرأسمالية المتجسدة بالمليونير الروسي، يحدث هذا وسط ضحكات الاثنين وهلع كامل بين الزبائن الأثرياء.. تتطور الأحداث بسرعة حينما يهاجم قراصنة مجهولون المركب ويغرقونه.. لنجد عدداً من الأثرياء قد نجوا برفقة كارل ويايا ورئيسة قسم المراحيض في اليخت أبيغايل.

هناك على شاطئ النجاة تنقلب الأمور حيث يجلس الجميع من دون طعام وشراب، لأنهم لا يعلمون أية مهارات حقيقية في الحياة، سوى أبيغايل التي كانت تنظف المراحيض، وحيدة تعرف كيفية إشعال النار واصطياد السمك والتقاط الثمار والحياة البرية، فتتحول إلى المرشد الحقيقي لهم إلى الحياة، وتطالبهم بأن ينادوها الزعيمة، رغم عروض تنهال عليها بثروات كبيرة في حال عودتهم، ولكنها تتمسك بجنتها التي حصلت فيها على الاحترام والتقدير، حيث امتلكت السرير الوحيد بين الناجين في مركب النجاة، ليصبح قانون السيطرة الآتي: " من يمتلك القدرة على الحياة هو من يفرض شروطه"، وليس من يمتلك المال والجمال، رويداً رويداً تسرق أبيغايل التي كانت تنظف الحمامات كارل من حبيبته، بشرط إطعامه السمك، وهكذا سيطرت البروليتارية على المجتمع الناشئ، وبدأت تمارس دكتاتوريتها كما يليق بتلك المجتمعات أن تكون..لتحظى تلك البروليتاريا الصاعدة بأفضل الطعام وأكبر الكميات من الرفاهية المتاحة وأحسن المنامات وأفضل الرجال وسامة.وسط خضوع الجميع.

في نهاية الفيلم تقترح يايا على أبيغايل السير في الجزيرة لاكتشاف المكان، وما هي إلا بضعة كيلومترات حتى نكتشف أن الوجه الآخر للجزيرة هو منتجع سياحي فاخر جداً.

وحينما ترقص يايا فرحاً لنهاية الكابوس الذي تعيشه، تتبدى أبيغايل البروليتارية الطامحة، بحجر ضخم فوق رأسها وهي مستلقية فوق رمال الحلم الذهبية.

هو فيلم عن صراع الطبقات وتسليع الانسان، ودورة الحياة التي تشبه في مفاصلها كل شيء يعيشه البشر، إذ إن العنف والرغبة في السيطرة هي سمة البشر مهما كانت أيديولوجياتهم، وما من شيء سيمنع البشر من استغلال بعضهم بعضاً، لا الماركسية ولا الرأسمالية ولا حتى الإيمان.. هي رغبة الإنسان في السيطرة فقط، ورغبته في تبوُّء مكانة مهمة في مجتمعه، تلك فقط التي ستقود الإنسان إلى مثلث الحزن القابع في منتصف وجهه.