مثقفو الشتات.. بين أحذية الغرقى وبيوتات الأدب واللوبي الثقافي

2023.06.05 | 05:37 دمشق

مثقفو الشتات.. بين أحذية الغرقى وبيوتات الأدب واللوبي الثقافي
+A
حجم الخط
-A

من قرية مقفرة صفراء في الشرق هاجرت إلى بلدة ألمانية خضراء، كنت كلما مشيت قرب نهر وجدت أحذية عائمة أو رأسية على جنبيه؛ أتذكر الغرقى يهربون بحياتهم من موت لآخر؛ وتناقلت وسائل الإعلام صور أحذيتهم تلك الوحيدة التي بقيت شاهدة على موتهم، وأقول ليتها جمعت لتكون صرحا عالميا لشهداء الإنسانية ووصمة عار.

يقول عراقي مغترب خرجنا في 2003م ، وفرقتنا المرجعيات في كل شيء، اتفقنا في شيء واحد أنا عراقيون بثقافة عريقة وفن واحد؛ لكن أنشطتنا تشظت حتى التفت كل منا إلى همه الخاص، برز البعض نسبيا عبر نتاجاتهم الفنية في المجتمع الجديد لكنه بقي معزولا كوافد من عالم آخر بلا محيط يسنده أو يتوجه إليه، وبرزت شخصيات استنادا لمرجعيات سياسية مذهبية تنشط بمال سياسي، وبرزت أخرى نفعية تهدف للتماهي مع المجتمع الجديد وعيونها على البرلمان وهي تخلع جلدها وتعمل بهمة المخبرين لجلد كل ما يمت للشرق "الإرهابي" بصلة، مواطنيه وضحاياه؛ مع تلبس الجميع بالإحساس بالدونية تجاه المجتمع الغربي، كنا جميلين كأفراد وفشلنا في أن نجتمع.

أما السوريون فلم ييأسوا ولم يصحوا بعد من المأساة، وبقدر ما كان وقع الموت مفجعا في أتون الحرب، كان درب الخروج عبر الحدود والأسلاك الشائكة ممزقا، والعابرون لجة البحر إلى حواف أوروبا وتبادلوا تهاني النجاة؛ تذكروا عيون رفاقهم كيف تصبح طعاما لأسماكه؛ ثم وجدوا وقع الحياة مذهلا ومرجفا مربكا، وهم من قال يوما نجونا من القتل والغرق؛ ليتساءلوا الآن هل نجونا حقا؟

لأن الثقافة هي الحامل الأساس لكل القيم ومنبرها ومجالها الفعال في شتى الظروف، يصبح من الملح التساؤل عن دور المثقف حيال ذلك، وإمكان تشكيل جالية نشطة تحمل عبء الثورة كقضية

ولأن الثورة وقد تسلحت وفاضت ثم تعثرت -تحت وطأة الخذلان والتشويه- قد يقع الكثير في مغبة حصرها بالتحولات على الأرض والتعويل على مقاتليها الذين أصابهم ما أصابهم، أو سياسييها الذين شتتهم مشاريع الدول، ويغيب عن الكثير أن الثورة فكرة وجذوة حملها شعب بين جنباتها أينما ولى شطره، سواء في الداخل المحتل، أو ذاك المحرر، أو دول الجوار وبلدان اللجوء، وأن ساحة الفكر والثقافة والارتقاء بالإنسان هي إحدى أهم جبهاتها التي لن تذوي ما لم يَشُب حَمَلتَها القنوط. ولأن الثقافة هي الحامل الأساس لكل القيم ومنبرها ومجالها الفعال في شتى الظروف، يصبح من الملح التساؤل عن دور المثقف حيال ذلك، وإمكان تشكيل جالية نشطة تحمل عبء الثورة كقضية، أو عبء الهوية حتى في أوساط غير منخرطة في الثورة.

إن كل خطاب هو سلطة أو طاقة توجيه، تكريس، أو تغيير تتجه إلى حيز أو مجال بشري ثقافي سياسي اجتماعي، فهل شعر مثقفنا بسلطته التي لم يشهدها في الوطن الأم إذ أصبح حرا في التمتع بها أو ينوء بها في المجتمع الجديد؟ وكيف رأى نفسه هنا، هل بقي نخبويا أم حاول الانضمام للمجتمع في بيئته الجديدة؟

برع إدوارد سعيد في تحديد دور المثقف تجاه السلطة ومواجهة الهيمنة، وبعيدا عن خذلان المثقف لثورات الربيع العربي، نجد أن من تبنى منهم الثورة ممن آل بهم المآل إلى المهجر؛ قد انتقل للخضوع تحت هيمنة أخرى وهي العالم الغربي وسطوته وصار يبحث عن دور له في تلك المساحة وكأن هناك من سيصفق له، فأصبح لدينا قبالة مثقف السلطة لدى الأنظمة الدكتاتورية؛ خط مواز يمثله مثقف السلطة العالمية وهيمنتها بدلا من محاولة دحض شموليتها وخطابها النخبوي، مع وجود شخصيات ثقافية تشظت هي الأخرى في ساحة الاختلاف الأيديولوجي التي طغت على الأنشطة الاجتماعية، وشتى مجالات فاعلية المثقف ودوره التنويري والثوري فأصبح الانتماء الأيديولوجي بوصلة عمله، ما يخرجه من ساحة الفعل الذي نظر له أدوار سعيد، وعجز المثقف المستقل من الاضطلاع بدور اجتماعي على صعيد قواعد المهاجرين؛ تلك التي تقتضي تواصلا وتشابكا مع الجميع، والتي تدرك ضرورة انشغال المثقف بهموم العامة والالتزام بها بل والنزول إلى طبائع حيواتها وأنشطتها، وابتعادها عن أوهام النخبة وفقا لما نظر له علي حرب، فهل يمكن للمثقف أن ينخرط في المجتمع اللاجئ ويتقرب من قاعدة تمثلها العامة ويجسر تلك الهوة أم سيختار لنفسه قصرا عاجيا ويحترف التنظير، توزعت جهود قسم معتبر منهم بين الانغمار في الثقافة الأوروبية أو محاولة الإبداع من خلال قنواتها شعرا وأدبا، وراح آخر يكتب الروايات مع استسهال كبير وتكسب كبير من الحرب التي عاشها شعبنا وضحاياها لاستدرار شفقة العامة، ونَفَرَ قسم نحو النقد للهوية العربية والإسلام أمام مجالات الحرية المفتوحة بغير ضوابط، والقدرة على النشر فضاع القارئ بين التحشيد والتكريس، ما بين النقد الموضوعي والنقد لمجرد النقد، أو للتسويق في غمرة الرغبات الجديدة، ومحاولات الاستعراض والظهور والتسويق؛ إذ ظهر في أوساط المثقفين في المهجر اختلاف على الهوية الثقافية العربية، وتنابذ أيديولوجي  واصطفافات جديدة وغرق في ثنائيات عقيمة.

هل يتجاوز مثقفونا الخلافات الأيديولوجية، وتباين المرجعيات ويتفقون بين كل هذا الركام والشتات على رؤية جامعة قائمة على كثير من قيم التشارك وبث روح العمل الجماعي التي افتقدها الكثير؟

لا شك في أن الهوية تعيش صدمةَ ومخاضَ تحولٍ مستمر زادت وتيرته إثر الانتقال لبيئات وثقافات جديدة، كما تعيش تمسكا بإرثها بعد سقوط مقولات إنسانية كبرى لدى العالم "المتمدن"، ومن هنا تنبجس أسئلة ملحة: هل سينتقل مثقفونا من التنعم بحرية الإبداع إلى نقد الرؤى الأوروبية ومركزيتها عموما وأثرها على بلدان الشرق؟

هل يتجاوز مثقفونا الخلافات الأيديولوجية، وتباين المرجعيات ويتفقون بين كل هذا الركام والشتات على رؤية جامعة قائمة على كثير من قيم التشارك وبث روح العمل الجماعي التي افتقدها الكثير؟

لاشك في أن قوى دولية لعبت على هذا التشظي والتشتيت عبر برامج عدة؛ ويقع على المثقف الملتزم بقضاياه شعبه مهمة جليلة وصعبة لتجاوزها، يشمل ذلك الفنان، والأديب، والروائي، والشاعر الذين انحسر نشاط الكثير منهم إلى الفردي والذاتي الذي يقع خارج مبدأ الهاجس الملحّ أو بالواجب الذي يقتضي تنظيما جماعيا، فبقي النشاط فردانيا إنساني الطابع مع تفشي وجود الشِلَلِية، كما أن اتسام المثقف بعدم صِداميته عموما، والذي انعكس في تراجعه عن خط الشارع في الثورة وصولا إلى رماديته أحيانا؛ جعلنا أمام المثقف الذي لم يصادم في الداخل خوفا على نفسه، ثم سكوته أو حياديته هنا خوفا على أهله، مع اشتغال البعض من الناشطين المثقفين على بعض المشاريع ثم توقفهم لبعد المسافة بينهم، ولغياب مجال جمعي ومحيط يمكن الاشتغال عليه، ولإحساس الكثير  باللاجدوى، ولربما كان غياب تجربة العمل السياسي أثر في تلك الأنشطة.

إن من ينهض بالمجتمع هو المثقف وليس غيره، ولئن كان التعويل في مجتمع ما على الشباب، فعلينا تذكر أن جيل شباب الثورة قد تمزق بين قتل وتشريد، وقد يكون معظمهم ليس من ذوي النشاط الثقافي، بل مأخوذٌ بنشاط الثورة الحركي حينها، ولم يجد من يقوده أو يوجهه هنا، والأخطر أن الجيل الذي يليه أو يشبُّ الآن لن يقدم شيئا ما لم يجد حراكا ثقافيا اجتماعيا يربطه بالثورة والوطن وفكرة العودة والبناء.