بين كل فترة وأخرى، تتسابق التحليلات من بعض المراقبين حول اقتراب الانسحاب العسكري الأميركي من سوريا، وفي كل مرة يربطونها بحدث جديد.
بدأت هذه الحالة منذ انتهاء دولة داعش في الباغوز السورية عام 2019، وصولاً إلى الانسحاب العسكري الكبير للولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021. أما بعد فوز ترمب مجددًا، فحدث ولا حرج، إذ باتت مسألة الانسحاب الأميركي بالنسبة لكثير من هؤلاء مجرد مسألة وقت وأشهر قليلة.
هنا، لا بد أن نعرف أن ثمة أسبابًا معلنة وكامنة لوجود القوات الأميركية على الأراضي السورية. لذا، فإن انسحابها مرهون بانتهاء أو زوال تلك الأسباب، والمسألة ليست لمجرد أن ترمب أو أحد مقربيه قد لمحوا بالانسحاب، كون هكذا قرارات مصيرية تخضع لدوائر وفلاتر عديدة في الإدارة الأميركية، كحال كل الدول المؤسساتية، وليست مرتبطة بقرارات شخصية أو حتى مزاجية، كما هو الحال في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية. نعم، ترمب أتحف العالم في رئاسته السابقة بقرارات مفاجئة وعاجلة، لكن هناك أمورًا أخرى ليست بتلك العبثية التي اعتادت عليها نظرتنا النمطية تجاهه.
أسباب وجود القوات الأميركية تكمن في حاجتها الاستراتيجية إلى موطئ قدم لها في دولة هامة جغرافيًا تتسابق جيوش خصومها ومنافسيها للعسكرة فيها، فضلاً عن سيطرتها على أهم مثلثين حدوديين (الشمال الشرقي مع العراق وتركيا، والتنف مع العراق والأردن). الأمر الذي يُمكنها من التنسيق مع قواعدها في العراق وعموم المنطقة، وكذلك التحكم بطريق اتصالات وإمدادات إيران لميليشياتها العديدة في المنطقة عبر العراق – سوريا وصولاً إلى لبنان المتاخمة لحدود مدللتها إسرائيل. فضلًا عن التحكم بالثروة النفطية وموازنة النفوذ العسكري الروسي، بالإضافة إلى السبب المعلن لوجودها العسكري وهو "محاربة تنظيم داعش"، كل هذا عدا الأسباب الأخرى والهامشية. جميعها تُمكن الولايات المتحدة من تقوية نفوذها في المنطقة عبر وجود قرابة 940 فقط لا غير، ولم تخسر منهم سوى أقل من عشرة جنود (ثلاثة منهم بحادث عرضي) طيلة كل هذه السنوات والمعارك التي خاضوها في سوريا.
كل خصوم ومنافسي الولايات المتحدة باتوا موجودين على الأراضي السورية باستثناء كوريا الشمالية، والتي هي أيضًا وقعت مع روسيا اتفاقية دفاع مشترك مؤخرًا
إن الأسباب الآنفة الذكر ما زالت موجودة ومستمرة، وزاد في الطين بلة الحرب المفتوحة التي تخوضها إسرائيل بكل ضراوة وقساوة بعد أحداث السابع من أكتوبر، وفي المقابل زيادة نشاطات الجماعات المرتبطة بإيران في دول المنطقة. كلها عوامل تُحتم على الجانب الأميركي زيادة نشاطه على الحدود بين سوريا والعراق، وليس الانسحاب وترك الفراغ أمام المد الإيراني. وفي حين أن منافستها روسيا موجودة عسكريًا وبقوة، فقد أضاف رئيس النظام بشار الأسد وجودًا صينيًا قويًا أيضًا عبر البوابة الاقتصادية من خلال توقيعه على اتفاقيات بعيدة المدى أثناء زيارته الأخيرة للرئيس الصيني في سبتمبر/ أيلول 2023.
إذاً، كل خصوم ومنافسي الولايات المتحدة باتوا موجودين على الأراضي السورية باستثناء كوريا الشمالية، والتي هي أيضًا وقعت مع روسيا اتفاقية دفاع مشترك مؤخرًا، ومن يدري! ليس مستبعدًا أن نجد وجودًا رمزيًا عسكريًا لها أيضًا ضمن بعض القواعد الروسية في سوريا (مجرد احتمال طبعًا). فلماذا إذًا ستترك الولايات المتحدة كل هؤلاء الخصوم يسرحون ويمرحون عسكريًا بينما لديها القدرة على ضبط أوضاع كثيرة عبر وجود بضع مئات من الجنود ليس إلا؟
الانسحاب الأميركي من أفغانستان ليس مقياسًا على وجود أميركا العسكري في كل مكان، فهي بذات الوقت توجد منذ عقود طويلة في ألمانيا ودول أوروبية أخرى وعلى طول الكوكب ولم تنسحب ليومنا هذا، بما فيها دول الخليج العربي والعراق أيضًا. كما أن أسباب وجود جنودها في سوريا تختلف كليًا عن عوامل وجودها في أفغانستان سابقًا. لذلك، ليس من المنطق إسقاط السيناريو الأفغاني على سوريا.
إذا كان ثمة من يقول إن ترمب رجل الصفقات الاقتصادية والأرباح أكثر من السياسية، فإنه سيعلم من طاقمه العسكري والأمن القومي أن مكاسب النفوذ الكبيرة التي تجنيها بلاده من قواعدها في سوريا، استراتيجية ومربحة أكثر، مقارنة مع التكاليف التي يتم صرفها على ألف جندي فقط.
أما بخصوص تركيا، التي كانت تعطي تطمينات للجانب الأميركي بإخلاء تلك المساحات لصالحها وأنها ستدير هذا الملف، فإن هذه المقترحات باتت بعيدة المنال والتنفيذ لأسباب كثيرة، أهمها أن تركيا لن تدخل على بساط أحمر، بل بحرب مع قوات سوريا الديمقراطية قد تؤدي لخلط أوراق عديدة في دول عديدة بالمنطقة. إضافة إلى تغيرٍ في السياسات التركية تجاه الملف السوري، خاصة بعد حاجتها للتطبيع مع نظام الأسد، الذي سلفًا يطلب انسحابًا تركيًا من الشمال السوري قبل أية مباحثات.
خلاصة الكلام، لمن يتساءل: متى سيحين موعد الانسحاب الأميركي من سوريا؟ فالجواب هو: "حينما تنتهي حاجتها للأسباب التي جاءت من أجلها أو تجد لها بديلاً". وإذا كان ثمة من يقول إن ترمب رجل الصفقات الاقتصادية والأرباح أكثر من السياسية، فإنه سيعلم من طاقمه العسكري والأمن القومي أن مكاسب النفوذ الكبيرة التي تجنيها بلاده من قواعدها في سوريا، استراتيجية ومربحة أكثر، مقارنة مع التكاليف التي يتم صرفها على ألف جندي فقط، تلك التكاليف التي أصلاً ربما تأتي عبر تخصيص "حنفية" من البترول السوري السائب لتغطية نفقاتهم، والتي أصلاً لا تساوي شيئًا بالنسبة لدولة أقوى اقتصاد في العالم. وفي النهاية، يبقى كل ما يقال مجرد تكهنات، لحين شباط القادم والمصادقة على الإقرار السنوي للكونغرس حول وجود قواتهم في سوريا.