متى تحصل الانقلابات العسكرية (2): هل الجيش التونسي انقلابي؟

2021.10.28 | 06:07 دمشق

2021-10-11t091253z_3165220_rc2l7q96oeqh_rtrmadp_3_tunisia-politics-government.jpg
+A
حجم الخط
-A

يعد هذا المقال استكمالا لنص تأسيسي بعنوان "متى تحصل الانقلابات العسكرية؟ استنتاجات نظرية من تجارب عربية" سلّط الضوء على أبرز الأدبيات والمساهمات النظرية الغربية والعربية التي تناولت مواقف الجيوش من الثورات والمراحل الانتقالية. ويعد أيضا حلقة أولى في سلسلة متعددة يحاول الكاتب الوقوف من خلالها على تجارب عربية بتفصيل مقتضب لفحص دور المؤسسة العسكرية ومواقفها، ونبدأ فيها بالتجربة التونسية ليس لكونها الأولى، بل نتيجة غموض يكتنف حقيقة مواقف الجيش فيها، الذي ما يزال يحظى بثقة شعبية كبيرة رغم امتعاض البعض من موافقته الضمنية أو عدم تدخله لمواجهة حركة قيس سعيد التصحيحية وتأويلاته وتفسيراته الدستورية التي مهدت لتحكّمه منفردا بالمشهد. وإذا ما تجاوزنا الأحكام المعيارية (الإيجابيّة) في تقييم سلوك الجيش التونسي (بمعنى أن الجيش التونسي لم يكن راغباً في الوقوف مع النظام ضد الثورة)، فإن تحليلنا يركز على مجموعة من العوامل والمحددات، أنتجت في سيرورة تفاعلاتها التاريخية والسياقية جيشًا "محايدًا" بالمعنى الإيجابي والسلبي و يُعنى بوظائفه التقليدية "الدفاعية".

محددات تفسيرية وأدوات قياس لسلوك الجيوش

نعيد تذكير القارئ أننا سنفحص المشهد التونسي وفقا لثلاث مساهمات نظرية نعدّها رئيسية هي إيفا بيلين (Eva Bellin)، زولتان براني (Zoltan Barany)، وعزمي بشارة.

تطرقت بيلين إلى أربعة عوامل تحدد استجابة الجهاز القسري (الجيش وقوات الأمن) للتغيير أولها: يتعلق بقدرته على تمويل نشاطاته وأفراده. وثانيها؛ شبكة الدعم الدوليّ. وثالثها: بناؤه المؤسساتي وقابليته للإصلاح أو مقاومته لذلك عبر بناء قاعدة موالية عبر المحسوبية الانتقائية والتقديرية، وكذلك الشبكات القرابية والزبائنية، واللعب على وتر الانتماءات العرقية والطائفية. أما رابعها، فيتمثل في وجود تعبئة شعبية للتغيير والإصلاح.

أما زولتان براني فتوصل إلى أن سلوك الجيش يتحدد في ضوء العوامل الآتية:

• مصادر المعلومات التي يحصل عليها الجيش عن الثورة، وحددها بأربعة مصادر؛ هي المؤسسة العسكرية، والدولة، والمجتمع، والمحيط الخارجي.

• العوامل العسكرية: وقصد بها التماسك الداخلي للمؤسسة العسكرية أو انقساماتها: العرقية – الدينية، والاجتماعية والسياسية بين النخبة العسكرية، والانقسامات بين وحدات النخبة والوحدات النظامية، والانقسامات بين الجيش وأجهزة الدولة الأمنية الأخرى، والانقسامات بين الأجيال، والانقسامات بين الجنود المحترفين والمجندين إلزاميًا، والانقسامات بين فروع القوات المسلحة.

• العوامل المتعلقة بالدولة: ترتبط بمعاملة النظام للجيش (جيدة = يسانده، سيئة = يقف ضده) ماليًا وتسليحًا، نظرة الجنرالات إلى النظام، وتوجيهات النظام للجيش واحترامه مبدأَ الأقدمية وعدم توريطه في مَهامّ متهورة.

• العوامل المجتمعية: حجم المظاهرات، ومكانة الجيش وشعبيته، وشعبية الثورة، وسعي الثوار للحصول على دعم الجيش.

• العوامل الخارجية: تتعلق باحتمال حدوث تدخل خارجي، وانفتاح الضباط على الخارج.

وفي كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، حدد عزمي بشارة مجموعة محددات يُسهّل توافرها انقلابَ الجيش في المرحلة الانتقالية ألا وهي؛ عدم الاتفاق على شرعية الدولة بوصفها كيانا منفصلا عن النظام، ووجود قيادة عسكرية طامحة، وشرخ بين النخب السياسية، وتحوّل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي، وتفضيل الحكم والانفراد به على مسألة الالتزام ببناء نظام ديمقراطي.

بورقيبة: الجيش " قوة شرطية"

حصلت تونس على استقلالها عام 1956 بعد مفاوضات مع فرنسا قادتها الحركة الوطنية بزعامة الحبيب بورقيبة الذي انتخب رئيساً عام 1957، بعد إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، ونجحت بعد عامين من الاستقلال في كتابة أول دستور مدني. حرص بورقيبة في مسعاه لتأسيس دولة حديثة تستنسخ النموذج الغربي في إبعاد الجيش عن السياسة والاقتصاد. ولتخوّفه من "الانقلابات الثورية أو التقدمية" التي اجتاحت دول العالم الثالث في خمسينيات القرن الماضي وستينياته ركّز على بناء جيش قليل العدد والتسليح، ومحايد أيديولوجيّاً، بما يَلجُم طموحات العسكريين ونزوعهم للتدخل في السياسة. وقد تعزز هذا النهج بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 1962 أو ما عُرف بانقلاب "لزهر الشريطي"، إذ سعى بورقيبة إلى كبح قوة الجيش ومنعه من اكتساب أي خبرة مؤسسية في أجهزة الدولة. وبدأ، بعد إعدامه جميع الضباط المتورطين في المحاولة الانقلابية، بإنشاء فرقة عسكرية "خاصة" موالية له، سمّيت بـ "الحرس الوطني"، ليتجنب أي سيناريو مشابه في المستقبل. ومع أن الجيش التونسي استجاب لطلب بورقيبة لضبط الأمن في ضبط الاستقرار ووأد الاحتجاجات العمالية عام 1978، وانتفاضة الخبز عام 1984، فإن دوره ومكانته لم يتغيّرا، وبقيت سياسة التهميش قائمة تجاهه في مقابل إيلاء الجهاز الأمني (قوات الأمن المركزي) اهتمامًا كبيرًا. المفارقة، أن عملية إزاحة بورقيبة عن السلطة عام 1987 لم تحصل نتيجة انقلاب عسكري، بل صممها ونفذها رئيس وزرائه زين العابدين بن علي، وهو شخصية نشأت في المؤسسة العسكرية، لكنها خرجت منها إلى الجهاز الأمني (تسلّم منصب وزارة الداخلية) بسبب ضعف تأثيرها من جهة، وسطوة الجهاز الأمني من جهة أخرى.

بن علي: تهميش الجيش يتعمق

تحوّلت تونس، بسبب تحكّم بن علي بمفاصل الجهاز الأمني، إلى دولة بوليسية. واستمرت سياسة إبعاد الجيش وتهميشه التي كانت سائدة. وبنظرة كميّة بحتة، فإن عدد الجيش التونسي لم يتجاوز، بحسب إحصاءات موقع Glopal Fire Power، على مدار العقود الثلاثة الماضية 44 ألف شخص، في حين أن قوات الأمن المركزي بلغ عددها عام 2011 نحو 49 ألفا بحسب تصريحات رسمية، وهو رقم يختلف عن تقديرات دولية وحقوقية تحدثت عن أكثر من 100 ألف منتسب، لكنه يبقى ضخمًا مقارنة بالجيش. أضف إلى ذلك، معاناة الجيش في عهد بن علي ندرةَ التسليح وشحَّ التمويل؛ إذ تشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن الإنفاق على الجيش حتى في مرحلة ما بعد الثورة لم يتجاوز 1.4 % من الناتج القومي الإجمالي (القليل أصلا) ليكون الأقل إنفاقًا مقارنة بجيوش أخرى في دول الجوار أو المحيط القريب. وبخلاف ضباط الأمن الذين كان بن علي يرسلهم إلى فرنسا للتدريب؛ أرسل ضباط الجيش إلى الولايات المتحدة من أجل تلقي دورات تدريبية ومناهج أكاديمية تستقي الأدبيات الفكرية حول العلاقات المدنيّة العسكريّة التي تركز على "حياد" الجيش والتزامه بأوامر السلطة السياسية. وبناء عليه، حصرت وظيفة الجيش التونسي في مرحلة ما قبل الثورة في مهماته الدفاعية التقليديّة، والتي لم تكن تتطلب جهدًا كبيرًا بحكم الواقع الجيوسياسي "الثابت" نوعًا ما، وأنيطت به وظائف أخرى "متغيرة"؛ مثل مواجهة الكوارث الطبيعية، وضبط الحدود ومكافحة التهريب. وبتوصيف آخر، أضحى الجيش التونسي " قوة شرطية" مدربة على التعامل مع أزمات طارئة تعجز قوات الأمن عن معالجتها. ونتيجة لذلك، ولعوامل أخرى كعدم تورطه في ملفات الفساد، وعدم امتلاكه سجلًا قمعيًّا منذ تأسيسه؛ حظي الجيش باحترام غالبية التونسيين، على الرغم من وجود خلل يتمثل بتميز الضباط المنحدرين من تونس العاصمة والساحل (المنستير، المهدية، سوسة) في الترقيات وداخل المجلس الأعلى وهيئة الأركان.

السبسي: دسترة "حياد" الجيش

يمكن القول في ضوء ما تقدّم: إن غالبية العوامل التي أشار إليها زولتان براني وجدت في الجيش التونسي عند اندلاع الثورة، لذلك رفض قائده الجنرال رشيد عمار أوامر بن علي بإطلاق النار على المحتجين، بل سُجِّل للجيش في حالات عدة تدخلُه لمنع قوات الأمن من قمع المحتجين؛ الأمر الذي وفر تربة خصبة لتعبئة الشارع ضد النظام، وانتقال الحراك الاحتجاجي من سيدي بوزيد والقصرين إلى المحافظات الكبرى قبل أن يتوطّن في العاصمة، ويجبر بن علي على الهروب في 14 من كانون الثاني/ يناير 2011. وبعدئذ، دخلت تونس مرحلة انتقالية برئاسة المنصف المرزوفي، استمرت زهاء أربعة أعوام، وشهدت اضطرابات وانقسامات حادة، هددت أكثر من مرة التجربة الديمقراطية الفتيّة قبل أن تطويها الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام  2014 وتشرع الأبواب لمرحلة ثانية من الانتقال (المرحلة ما بعد الانتقالية) أهدَأ، وأشدّ استقرارًا وانفتاحًا، برئاسة الباجي قايد السبسي جعلت تونس قريبة من إكمال التحول الديمقراطي وترسيخه نتيجة لحصول توافق سياسي بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد فيما عُرف بتوافق الشيخين ( السبسي- الغنوشي).

قد تفسر المتغيرات التي تطرّقت إليها إيفا بيلين (التمويل والتسليح، والمأسسة، وشبكة الدعم الدولي، والتعبئة الشعبية) أسبابَ انكفاء الجيش التونسي عن أداء دور فاعل في ترتيب المشهد السياسي في المرحلة الانتقاليّة، أو إعاقة مسار التحول الديمقراطي. لكن إذا انتقلنا إلى جانب آخر من الصورة، فإن رغبة قادته ووعيهم بمخاطر تدخل الجيش، ساهم في  أن تسلك تونس مسلكا ديمقراطيا حتى عام 2021؛ فمع أن الجيش اضطلع بمهامّ جسام خلالها في حفظ الأمن، والحد من الفوضى، ومواجهة التهديدات الإرهابية، وحماية مؤسسات الدولة، ودوام انتظام عملها، فإنه أحجم عن أداء أي دور خارج مهامّه التقليدية، ولم يطالب حتى بتعزيز مكانته وموقعه في النظام السياسيّ إبّان صياغة الدستور عام 2014 . أضف إلى ذلك، تجاهل الجيش نداءات قوى سياسية تونسية ليبرالية ويسارية دعت لاستنساخ سيناريو "3 يوليو" في مصر، على نحو سمح بإنجاح مهمة رباعية الحوار التونسي بإقناع الفرقاء السياسيين بتجاوز الاستقطاب السياسي والفكري، والوصول إلى تسويات شاملة جعلت ثورة تونس "الاستثناء" في ربيع عربيّ مُدمَى.

 قيس سعيّد: الجيش غير مقتنع

فتحت وفاة السبسي عام 2019 الباب لإعادة رسم المشهد السياسي في تونس بعد تغيير القواعد الناظمة الناتجة عن اتفاق الشيخين، حيث انتخب بعده قيس سعيّد رئيسًا للبلاد في مرحلة كانت موجة من الشعبوية تكتسح العالم. فوز سعيّد عكس في شكلياته تململا شعبيا كبيرا من النخبة السياسية والحزبية لدى فئات شعبية واسعة لا سيما مع تراجع الأوضاع الاقتصادية وعجز الحكومات المتعاقبة عن حل المشكلات الأساسية. وقد تسلح الرئيس بوجود شرخ سياسي واسع بين القوى الحزبية حول البرلمان إلى منصة تعج بالفوضى نتيجة الصدامات والمشاحنات، ولعب دورا في إذكائه أيضًا في محاولة للهيمنة على المشهد لا سيما بعد الصراع مع رئيس الحكومة. واستغل غياب وجود محكمة دستورية لتفسير مواد دستورية بطريقته الشعبوية بعد تحصين انقلابه.

من الناحية الشكلية، لم يَرَ الجيش التونسي في إجراءات سعيّد مخالفة للدستور لا سيما أن الأخير حصّن نفسه ببعض الخطوات البروتوكولية من بينها إعلام رئيس البرلمان، لكنه في الوقت نفسه امتنع، كما يبدو المشهد حتى الآن، على الانحياز عمليًا للرئيس أو تشجيعه على خطوات ضد معارضيه. وعلى الرغم من وجود شرخ سياسي تعمّق هويّاتيا، فإن قيادته لم تكن يوما طامحة في شغل دور يتجاوز مهمتها التقليدية. رغم ضبابية المشهد المستقبلي، لكن قواعد اللعبة لم تتغير كثيرا بسبب عدم الانخراط الجدّي للجيش. الأمر الذي سمح بانطلاق المظاهرات مجددا بين خصوم الرئيس وأنصاره في محاولة لإثبات وجهودهم في الشارع. بكلمات أخرى، صيغت عقيدة الجيش على تفضيل الحياد إلا عندما تستلزم الظروف القاهرة التدخل لاستمراية عمل السلطة لا تسَلُّمِها، وذلك لأسباب عديدة أهمُّها "ضعفه" في السياق المؤسساتي لدولة ما يزال فيها العمل النقابي يلعب الدور الرئيس في التعبئة السياسية والاجتماعية.