متى تحصل الانقلابات العسكرية؟ استنتاجات نظرية من تجارب عربية

2021.10.26 | 06:21 دمشق

brhan.jpg
+A
حجم الخط
-A

لفت مسار الثورات العربية ومصيرها المتعثر بالعديد من الانقلابات العسكرية الكلاسيكية الانتباه إلى متغيّر رئيس ظل غائبًا في الأدبيات الأكاديميّة الغربية والعربية أو حضر حضورًا ثانويًا، ويتمثل بدور المؤسسة العسكريّة في الانتقال الديمقراطي. الانقلاب العسكري في السودان الذي سبقه انقلاب دستوري في تونس لم يعارض العسكر حصوله يدفعنا إلى محاولة رسم ملامح أساسية للعلاقات العسكرية المدنية في العالم العربي بناء على مساهمات نظرية وتطبيقية غربية وعربية.

خلاصات غربية: بين مثالية الحياد وواقعية التدخل

نظرت غالبية أدبيات الفكر السياسي في مرحلة الدولة القومية بعين الريبة إلى العسكر، حيث ظلت مقولة مكيافللي الشهيرة عن "أن العسكري لا يمكن أن يكون رجلًا صالحًا" حاضرة دائمًا لدى الحكام والأمراء في ترتيب شؤون الدولة والحكم. فخلال القرن العشرين حصلت طفرة كبيرة في دراسة العلاقات المدنية العسكرية لعدة أسباب مثل الحربين العالميتين، وموجات التحرر والاستقلال في دول العالم الثالثة.

ضمن هذا السياق، يعد كتاب صموئيل هنتينغتون (Samuel P. Huntington) الصادر عام 1957 بعنوان: الجندي والدولة Soldier and the State باكورة النصوص التأسيسية في تشريح العلاقة المدنية العسكريّة، وكيفية جعل العسكر "الأقوياء" تحت السيطرة المدنيّة. وبحسب هنتينغتون، فإن منح العسكر استقلالية في تدبير شؤون مؤسستهم تسهم في صناعة جيش قوي ومحايد يقوم على مبدأ "احترافيّة الضباط"، وانصياعهم طوعًا لحكم المدنيين. وعلى هديه، سار كثيرون لعل أبرزهم روبرت دال (Robert A. Dahl)، إذ ربط في كتابه Democracy and its Critics الصادر عام 1989، بين سيطرة المسؤولين المنتخبين على سياسات الحكومة وقراراتها وفقًا لما تكفله الدساتير، وبين تبعية القوات المسلحة تبعية كاملة وطوعية للسلطات المدنيّة المنتخبة.

وجهت انتقادات عديدة لنظرية هنتينغتون وأتباعها؛ كونها تنطلق من نظرة سكونية عن علاقة الجيش والمدنيين من دون أن تشرح ديناميكية التفاعل والتشابك بين المجالين العسكري والمدني، على نحو يجعل معادلة الاستقلاليّة والاحتراف والحياد أقرب إلى أن تكون أفكارًا مثالية.

لقد انطلق هنتينغتون ومن سار على هديه من واقع الدول الديمقراطيّة، ومن ثمّ جاءت أطروحاتهم لترسيخ هذا الواقع وتأكيده أكثر من تحليل أسباب تشكله.

كما أن فكرة الإبعاد والحياد يصعب تطبيقها في الدول غير الديمقراطية، وهذا ما ذهب إليه صموئيل فاينر (Samuel Finer)، الذي ركز على دراسة مسببات تدخل الجيش ومستوياته ونتائجه؛ بهدف توفير الأدوات النظرية اللازمة لتحليل الانقلابات التي شهدتها كثير من دول الشرق الأوسط في خمسينيات القرن المنصرم وستينياته.

ومايز فاينر بين أدوار الجيش في الدول الديمقراطية المتقدمة والدول غير الديمقراطية، ففي الأولى تنحصر مهمة الجيش بـ "الحارس" أو "الشرطي"، أما في الثانية فقد ارتبط دوره تاريخيًا بالتحرر من الاستعمار وإعادة بناء الدولة.

أفسح تشابكُ المدني والعسكري في الأنظمة السلطويّة، إضافة إلى موجات التحول الديمقراطي التي شهدتها دول أميركا اللاتينية وأفريقيا، ولاحقًا دول أوروبا الشرقيّة؛ المجالَ لتجاوز السؤال البديهي عن علاقة المدني بالعسكري إلى تساؤل أكثر تحديدًا يتعلق بمدى تقليل الآثار السلبية لتدخل العسكر بالسياسة، وكذلك مساهمة الجيش في تسهيل/ إعاقة التحول الديمقراطي.

وإذا كانت الأطروحات النظرية الأولى عن دور العسكر استلهمت مقولة مكيافللي السابقة، فإن مقولة لينين عن أنه "لا يمكن لثورة جماهيرية أن تنتصر من دون مساعدة قطاع من القوات المسلحة الداعمة للنظام القديم" أضحت أشدّ حضورًا، وصيغت على أساسها الأطروحات الأساسية عن دور الجيوش في الثورات والتحول الديمقراطي كما جرى مع ثيدا سكوكبل (Theda Skocpol)؛ إذ رأت أن نجاح ثورة ضد نظام ما لا يرتبط بالسخط الاجتماعي، وإنما بقوة جهاز الدولة القسري وتماسكه وفعاليته في قمع المعارضين أو قابليته للاستجابة لهم.

وتأسيسًا على ما سبق، عالجت إيفا بيلين (Eva Bellin) متانة السلطوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتطرقت إلى أربعة متغيرات ترتبط ثلاثة منها بالمتغير الأول والأهم ألا وهو استجابة الجهاز القسري/ الأمني.

على أهمية دراسة بيلين، فإن غموضًا إجرائيًا اكتنف مصطلح "الجهاز القسري"؛ أهو الجيش (أو قوات الأمن) أم "الجيش الخاص"؟ وما طبيعة أدوار كليهما؟ وكيف يتفاعلان فيما بينهما؟ أيتفقان أم يتعارضان في التوجهات؟  وقد حاول زولتان براني (Zoltan Barany) في دراسته بعنوان “explaining the military response to revolution”، حل الإشكاليات السابقة؛ بالتركيز على موقف الجيوش فقط خلال الثورات والمراحل الانتقالية، وخلص إلى أن سلوك الجيش يتحدد في ضوء مجموعة من العوامل وفق الآتي: مصادر المعلومات التي يحصل عليها الجيش عن الثورة والقوى المدنية، والتماسك الداخلي للمؤسسة العسكرية أو انقساماتها، ومعاملة النظام للجيش ومكانته الشعبية، وشعبية الثورة، واحتمالية حدوث التدخل الخارجي.

التجارب العربية: بين السلطوية الباطشة وطموحات القادة

عديدة هي الأدبيات التي تصدت لفهم الانتقال الديمقراطي عربيا، لكن كتاب عزمي بشارة المعنون "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" هو برأينا الأشمل حتى الآن. لا تأتي أهميته من كونه يشتبك مع مختلف المداخل النظرية التي فسرت غياب الديمقراطية عربيًا بما مثل التحديث، التنمية الاقتصادية، والمجتمع المدني، والطبقة الوسطى، والبعد الجغرافي من محيط ديمقراطي، وسياسات التكيف السلطوي، والاقتصاد الريعي.. إلخ، بل من سعيه إلى تقديم مساهمة نظرية في الانتقال الديمقراطي من خلال دراسة تطبيقية للتجارب العربية.

ضمن هذا السياق، لم يكن غريبًا إيلاؤه دور الجيش وأجهزة القمع أهمية كبرى في تسهيل/ إعاقة التخلص من النظام السلطوي، حيث جعلها في المرتبة الثانية في ترتيب استنتاجاته النظرية بعد مسألة الاتفاق/ الاختلاف على شرعية الدولة بوصفها كيانا منفصلا عن النظام.

لا يحذو بشارة نهج بعض الباحثين في رفض المساهمات النظرية الغربية، لكنه يحاول استدراك ثغراتها وتطوير استنتاجاتها متسلحًا بدراسة عينية للحالات العربية.

ففي الموقف من الثورات، يؤكد أن عوامل مثل: قوة الدولة وتماسك جهاز القمع والجيش تعدّ رئيسية تفسيريًا في نجاح ثورة ما أو فشلها، لكنه يضيف تمايزًا عربيًا يسميه " السلطوية الباطشة"، والتي تمثل برأيه "لغز الاستثنائية العربية". فخلافًا للمقولة السياسية الرائجة (العنف لا ينفع) والتي عادة ما تستخدم شكليًا للجم سلوك الأنظمة القمعية، أثبت الواقع العربي العكس وأن (العنف ينفع) في الحالات التي يكون فيها النظام قادرًا على ممارسته على نحو مثابر ومنهجي في غياب معوقات محلية دولية.

وبالإضاءة على الحالة السورية، يستغرب بشارة من أن مسألة وطأة القمع على النفوس والخوف النفسي من أجهزة الأمن لم تلفت عدداً غير قليل من الباحثين.

فعلى سبيل المثال، كان الاستنتاج الرئيسي للنظام السوري من ثورتي مصر وتونس أن رئيسيهما أخطأا بالتراجع والتواني عن دخول المواجهة الشاملة، ما أظهر النظام "ضعيفًا" في الشارع وشجعه على مواصلة الاحتجاج.

فيما يتعلق بالمراحل الانتقالية، يجادل الكتاب أن الانتقال الديمقراطي بشكل عام لا ينجح إذا عارضه بالقوة جيش متماسك، وكذلك إذا اعتبر الجيش التحول مضرًا به بوصفه مؤسسة، أو بمصالح قيادة هذه المؤسسة.

لكن الإضافة العربية هنا، من خلال المقارنة بين تجربتي مصر وتشيلي، هو وجود "قيادة طامحة إلى السلطة". وبالتالي، لا تتفاوض المؤسسة العسكرية على امتيازاتها أو مصالح قادتها فقط، بل تضع نصب عينيها الاستيلاء على السلطة لا سيما إذا جاء رئيس مدني من خارجها. من هنا، لا يرى الكتاب في موقف الجيش المصري عام 2011 انتصارًا لثورة يناير بمقدار ما كان استغلالا لها للضغط على مبارك، فالجيش لم يترك السياسة بعد تنحّيه ولم يتحول إلى جيش مهني، لكن عقد صفقة تاريخية مع الرئيس مرسي حمت امتيازاته ووضعته في موقع مختلف عن باقي مؤسسات الدولة، بما أفسح المجال لحصول الانقلاب مع وجود قيادة طامحة. يتكرر الأمر ذاته في السودان اليوم. فموقف الجيش من ثورة 2019 لم يكن انحيازًا لها بل ضغطٌ على البشير ليتنحّى. وبعدها لم يعد الجيش إلى قواعده، بل عقد صفقة تاريخية مع قوى الحرية والتغيير مكّنته من إدارة البلاد لفترة انتقالية قبل أن ينقلب على المدنيين المشاركين معه.

موقف الجيش المصري عام 2011 انتصارًا لثورة يناير بمقدار ما كان استغلالا لها للضغط على مبارك

في حالة السودان، كان طموح البرهان وحميدتي واضحًا ولا تخطئه العين، لكن القوى المدنية، كما في مصر، لم تعمل على تحييد الجيش. لا يعني ما سبق أن أدبيات الانتقال تشجع على رفض العمل مع الجيش، فهذا شيء وتحييده في مراحل الانتقال شيء آخر. في ضوء ذلك، يرى بشارة أن تحييد الجيش في مصر كان ممكنًا لو كانت المعارضة موحدة وقادرة على استغلال الشرعية الثورية التي نشأت والتوصل معه أو عقد تفاهم يتضمن قواعد اللعب الديمقراطية أو المبادئ الدستورية المتفق عليها. لكن المعارضة بشقيها الإسلامي والعلماني تنافست على إرضاء الجيش واستمالته إلى درجة وصلت ببعض العلمانيين إلى استدعائه علنًا للانقلاب على رئيس مدني منتخب. تكرر هذا المشهد مؤخرًا في تونس، حيث لعبت قوى مدنية دورًا في تبخيس العمل البرلماني وإظهاره كفوضى عارمة تستدعي تدخل الجيش لضبط الوضع. وهو الأمر الذي استغله قيس سعيّد لتأمين ظهير شعبي لانقلابه الدستوري.

يمكن القول إذن إن الانقلابات العسكرية هي نتيجة طبيعية وتحدث إذا توافرت مجموعة من العوامل مثل وجود قيادة عسكرية طامحة، وشرخ بين النخب السياسية، وتحوّل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي، وتفضيل الحكم والانفراد به على مسألة الالتزام ببناء نظام ديمقراطي.

المفارقة بمكان هو "غياب التعلم الديمقراطي" في التجارب العربية التي تتشابه في مسارها ومصيرها رغم الفوارق الزمنية. ويمكن باختصار لأي مراقب رسم مسار مكرر للانقلابات العسكرية العربية خلال المرحلة الانتقالية، يبدأ بتخلي الجيش عن رأس النظام لحماية النظام، ثمّ بتبنٍّ مؤقت وانحياز شكلي للثورة، والتوافق مع قوى حزبية تقليدية على الحكم لا البناء الديمقراطي، ثم إقامة تحالفات إقليمية مع دول معادية للثورات، وخلق أزمة اقتصادية وفراغ أمني وحالة من عدم الاستقرار المجتمعي، يتلوه شقّ القوى المدنيّة عبر استمالة بعضها، ومن ثمّ وضع اليد على السلطة بمبرر إنقاذ البلاد. مسارٌ يعرفه العسكر جيدًا ويطبّقه بمساعدة نخب مدنية عربية قليلة التجربة والوعي السياسي، وهنا تكمن المعضلة العربية.