متوالية جرائم الكراهية في فرنسا

2020.11.03 | 23:42 دمشق

_115155524_mediaitem115155523.jpg
+A
حجم الخط
-A

مبدئياً يجب أن نتوافق على أن الاحتجاج، من أي طرف ضد أي طرف، والتظاهر والتنديد والشجب والمقاطعة بكل أشكالها هو حق مقدس. من يملك حقَّ منعه وحرمان المحتجين منه، سيكون متاحاً للآخرين، في المقابل، منعه من قدسية امتلاك هذا الحق يوماً ما. فالحريات لا تتجزأ، وليست بضاعة مباحة لناس دون ناس. ولكن ليس هذا هو أهم ما في المشهد الحادث اليوم، بل الأهم هو أنّ هنالك من "ينصرون" و "ينتصرون"، مع أن كل شواهد الواقع المعاش تنطق بما لا يقبل أي تأويل أو لبس، أنهم هم الأحوج لمن ينصرهم؛ سياسياً واجتماعياً وحضارياً بالمعنى الشمولي، وأن ينتصر لأزماتهم الدينية والدنيوية المحيطة، والتي باتت أشبه بحالة إعضال تاريخي مزمن.

ومن المؤكد أيضاً أن الأمر ليس قوة إيمان وتدين، ولا يدخل في باب التدين، تحت أي تفسير يمكن أن يحتالَ المرءُ عليه لتفسيره. ورغم محاولات "متعهدي الاحتجاجات" الشاقة والصعبة، فإن نسبة المحتجين لم ترتقِ إلى ما هو أقل بكثير من واحد بالمـئة من مليار ونصف مسلم؛ هم مواطنون لحوالي 90 دولة إسلامية، أو ذات أغلبية مسلمة معقولة العدد. ومن المؤكد أيضاً أن المحتجين يتسع لهم الوصف بأنهم "أُخرِجوا" أكثر من الوصف بأنهم "خرجوا"، بالمعنى المباشر أو غير المباشر للحدث المشاهَد. واللافت أنهم أخرِجوا من بعض جغرافيات محددة، لا تسمح بالتظاهر ولا بحرية الاحتجاج، ولا حرية التعبير عن الرأي الحر، بضمير حر، في مضمار مشابه لما يجري. ومع كل ما سبق، فليس هذا هو بيت القصيد.

بيت القصيد، بتبسيط وسهولة تعبير؛ يُلَخَّصُ بأن المحتجين المجروح إباءَهم، المصدومة مشاعرهم، يحتجون على أمة أخرى ليست جزءاً منهم، ولا دارُها دارُهم، ولا حدودُها تتلامس مع حدودهم. ويعترضون على ما يقول رئيسها أو وزيرها، أو ما يعبر بعض مواطنيها عما يرونه حقاً مشروعاً لهم، يكفله دستورهم وقوانين الحرية التي دافعوا عنها لقرون مضت، فإذا بالناقمين عليهم هذا الحق أن يُعَبِّروا في "بيتهم عما يريدون"، ينقمون عليهم ذلك، وهم على مبعدة آلاف الكيلو مترات عنهم. وفي أوطان وبيوت تقع في الطرف الآخر من الكوكب.

وحين يجترئ شخص يدعي أنه ينتمي للإسلام، ولعقيدة سماوية توحيدية، على قتل امرأة مسنة تجاوزت السبعين من العمر، وهي تصلي في دار عبادة، كما وقع في كنيسة "نيس"، فإنه يجب الاعتراف بأن الإسلام قد صار تحت خطر أن يتحول إلى شيء لا يشبه الدين الذي بشَّر به النبي محمد، قبل خمسة عشر قرناً. ولن يصل بأي مفهوم للدين وقضية الإيمان إلى بيضاء ناصعة، يتفاهم عليها المسلمون مع بعضهم، أو مع غيرهم.

فالدين حين يتحول من طمأنينة إيمانية داخلية واعتقاد وجودي، يفسر للإنسان وحدته في هذا الوجود ويطمئنه، ويرضي شغفه في عزلته وقلقه من الحياة وما بعد الموت؛ وحين ينصرف عن كونه ثقة بالخالق، إلى مجرد أزمة هوية تلبي حاجة عميقة لمغتربين وجودياً، وسط بحر متلاطم من الهويات المتصارعة والمتفاخرة بنفسها، ينخفض بمعدلاته القيمية إلى مجرد رموز متصارعة عميقة في لا شعور عميق تائه. وينحدر إلى محض رمزيات متخشبة تستولي على وجدان المؤمن وعقله، فيصبح الدفاع عنها سوراً حربياً يلوذ به من أزماته غير المفهومة، تحت ستار ادعاء نصرة الله ورسوله، أكثر مما يمكن وصفه بأنه إيمان تمَّ اختياره عن علم وشهادة صريحة. 

قد يستطيع نظام الأسد، أو أي نظام طاغية آخر، أن يخرج مظاهرات مليونية تشيد بما يشاء وتندد بما يشاء في أي وقت يشاء. وقد رأينا أمثال تلك التظاهرات المحتجة، في عشرات المظاهرات التي خرجت في مناطق قسد، وهي تهتف بحياة أوجلان، وتشيد بنعماه وفضائله الفكرية على الحضارة الحديثة، وآثاره الفكرية والسياسية التي لا تُنكَر في تغيير مسار التاريخ. ونعلم جميعاً ان كل تلك المشاعر والشعارات الأوجلانية التي تشق عنان السماء، بوهجها المتحمس، كانت تصدح بها حناجر أناس لا يعرفون شيئاً عن أوجلان، وربما لم يسمعوا به قبل المظاهرة. 

الاجتماع المتطرف ليس حاصل مجموع أشخاص إرهابيين، كالغابة وأشجارها، ولا هو محصلتهم الجامعة، بل إنه استكمال حالتهم المرضية والسعي لتثبيتها عند مستوى من الانحدار.

كل هذا الخواء الروحي والفكري والسياسي حتى في أبسط تعابير الاحتجاج، موقوف على يأس وفزع من الحياة ذاتها، ومن شعور بالاستسلام إلى قدر من المجهولية وعدم المعنى. فنسبة تصل إلى أكثر من سبعين بالمـئة من الغاضبين، تعيش تحت خط الفقر بكثير، وتحت خط الحريات الأساسية وحدِّها الأدنى المطلوب لأي إنسان، (على الأقل في سوريا)، وهي تتعايش منذ سنوات مع آلة قتل يومية؛ إيرانية وروسية وأسدية، تحصدها بالعشرات يومياً.

مع ذلك أصبح هذا التعايش اليومي مع الموت، متروكاً للاستسلام والألفة العادية معه، إلى حد التأقلم مع عاهة مزمنة، لا تنفع فيها ومعها الشكوى والتذمر. كما أنها ترى كل قوام حياتها من زرع وضرع وبترول يُحرق أو يسرق أمام الأعين، دون أن يكون بالمقدور الاحتجاج أو الشكوى أو تحصيل الحد الأدنى من حقوقها.

كما أن هناك نظرات ـ ولا أقول نظريات ـ تحاول التعامل مع سلة المشاكل السجالية القائمة، على أساس أنها مشاكل ذات ماهية ومواصفات بنيوية واحدة وثابتة: إسلام/ مسلمون. علمانية/ علمانيون. إرهاب/ متشددون.. إلخ.. وأن تجردَها من جذرها السياسي وظرفها الاقتصادي وسياقها الاجتماعي، زمانياً ومكانياً. وأن تنزعها من لحظتها الحضارية وظروف تطورها والشروط التي يتم التعاطي معها. ولا مراء في أن تصعيد أسباب هذا الاحتقان مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بمصلحة أطراف عديدة، والنزوع نحو هذا التصعيد مرهون باللحظة التي وصل إليها التطور العالمي، ومدى استفادة عالم اليوم، أو تضرره من الخراب العام او الإعمار لبلدان الشرق الأوسط، التي فقدت مقومات الإسناد والقوة، وأصبحت الطرف الأضعف في كل معادلات إضرام الحرائق أو إخمادها.

الاجتماع المتطرف ليس حاصل مجموع أشخاص إرهابيين، كالغابة وأشجارها، ولا هو محصلتهم الجامعة، بل إنه استكمال حالتهم المرضية والسعي لتثبيتها عند مستوى من الانحدار، وهو الإطار الجامع الذي يمنحهم تعريفاً وتفويضاً وفهماً جديداً مترقياً للعطب الذي يحيون فيه، والذي لا يحققون كينونتهم إلا بالالتصاق بقضية تمنحهم شعوراً زائفاً بالوجود.

هذه النتيجة تُجبرنا على تفريع الموضوع إلى فرعين، ينتمي كلُ واحدٍ منهما إلى جنس لا ينتمي إليه الآخر، كما لا ينتمي صحن العنب البلوري في جنسه المادي إلى فاكهة العنب، فلا يُفهَمُ الإرهابي إلا من حيث هو طبيعة سايكولوجية قائمة بذاتها ومنفصلة عما حولها. طبيعة تقوم على مركزية فكرة متوترة ومسيطرة على كامل الذهن والعقل والطاقة، وهذا التمركز الدماغي للفكرة يجعل ما حولها وما يحيط بها من مساحة الدماغ التي تحتوي العقل والمجتمع والبنية العامة للأخلاق والوسط العام، معطلة أو متماوتة أو خاملة النشاط، فلا يَرى الإرهابي إذن إلا فكرته المركزية المتأججة في رأسه، والتي يستهين بسببها بكل شيء، ويبرر بسببها كل شيء، ويَدَّعي كل دعوى لتبريرها لسيطرتها المطلقة عليه، كالوسواس القهري المزمن الذي لا فكاك منه، وهي تدفعه حثيثاً نحو نهاياته سواءً ارتضى بها أم أنكرها، فهذه الفكرة المركزية المتأججة والمشتعلة في أضيق مساحات وعيه، هي كيانه كله، وليس له بعدُ كيانٌ أو شخصية غيرها، أو مدركات مؤثرة يمكن أن تلجمها أو تتحداها أو تحاول أن تُطامنَ قليلاً من بركانها المندفع المتأجج.

أما الاجتماع المتطرف والمنظم، فإن وظيفته تبدأ تالياً؛ حيث يقوم على خلق وسط داعم نفسياً، يسعى لتطوير أمراض الآخر المغترب نفسياً وعقلياً، وتأطيرها وتنظيمها، ومدها بالشعارات والفكرة التي تحتكر القيمة، في الدنيا والآخرة.

كلمات مفتاحية