متلازمة مثقف السلطة

2022.01.19 | 05:44 دمشق

image_39190.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعتمد كثير من المقاربات في تقييم المجتمعات على فكرة التضاد، فالخير والشر والجمال والقبح والنجاح والفشل، ثنائيات بنيت عليها فكرة الكون بكامله لتحديد الفضيلة التي تبنى عليها الأخلاق.

وعلى الرغم من أن مثل هذه الثنائيات كونت الفكرة العامة للقوانين الناظمة للمجتمعات فإن هناك ثنائيات غير متقابلة قد تساهم في تغيير الفكرة وحرفها أو تعبث فيها وتمهد لشكل مختلف من الثقافة.

يشكل المثقف والسلطة إحدى هذه الثنائيات التي قد تنسف قيماً أو تبنيها في المجتمعات أو الدول خاصة غير المستقرة منها أو تلك التي تخوض معركتها في سبيل الديمقراطية.

تبدو الجملة غريبة إلى حد ما، إذ لم تكن تلك الثنائية قابلة للمقاربة قبل ذلك، أو لم تكن بتلك الأهمية من أجل الدقة غير أن تلك العبارة قفزت إلى الصدارة في الفترة التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي، عند حدوث الانقسام الكبير بين فئات المجتمع من مثقفين ونخب وفئات الشعب العامة التي شعرت بخذلان شريحة كبيرة من المثقفين التي اختارت عدم الانضمام إلى جموع الثائرين في حين كانوا ينتظرون منهم دعم حقهم في حياة إنسانية عادلة.

يذهب المثقف إلى أن يكون صوتاً للسلطة بهدف إشباع رغبته في التفوق عن طريق اتحاده معها لكسب ظهور أكبر ورواج أكبر بين جموع الناس

تذهب السلطات في كثير من الأحيان إلى استخدام المثقف للترويج لنفسها، وليس ذلك بأمر غريب لأن السلطة المفترضة لا توفر طريقة من أجل التأثير على الشعوب التي تحكمها، وقد يبدأ المثقف المزعوم يتحدث باسمها ويدافع عن خطابها وسياساتها عن دراية حيناً وعن عدم تقدير وتفكر أو خوف في أحيان كثيرة.

وقد يذهب المثقف إلى أن يكون صوتاً للسلطة بهدف إشباع رغبته في التفوق عن طريق اتحاده معها لكسب ظهور أكبر ورواج أكبر بين جموع الناس، حتى يتحول به الأمر إلى أن يكون بوقاً لها، مستهدفاً بذلك شهرة لتعزيز موقفٍ ذي أفضلية، وقد يتبادل المثقفون الاتهامات في هذا الخصوص كل منهم بحسب الموقف الذي يتخذه، حتى قد يخيل للسامع أنه قد لا يوجد مثقف عربي يملك صوته المستقل من دون حسابات مختلفة ومن دون أن يكون موجهاً بحسب جهة معينة.

ينأى المثقف عن نفسه بالعموم عن هموم ومشكلات الشعب ويفضل الانعزال في محرابه الخاص منفصلاً عن الواقع اليومي المعاش، إلا أن ذلك قد يختلف في حالات الصراع بين الشعوب والسلطات، وقد تبحث الشعوب عمن يعزز لها فكرتها وحقها في الصراع ويؤكد لها أنها تملك الحق في الثورة، غير أن المشكلة تحدث عندما ينكفئ المثقفون عن ذلك أو يحاربونه في حين تعتقد المجتمعات أنه صاحب وعي ورؤية عميقة وله مكانة خاصة تبعا لعلمهم ومعرفتهم.

يسود لدى المثقف فكرة أنه يمتلك الحكمة ونفاذ البصيرة بحيث يمكنه التفريق بين التزييف والحقيقة ببساطة، وقد يعزز ذلك الشعور لديه جموع الشعب الذي يسعى إلى تمثل فكرهم وتقليدهم ومحاكاتهم فتقوم السلطات باستخدامهم، ما يجعل العلاقة بينهما أقرب إلى التناقض بين التنافر والتقديس ما يكفي لكتابة مجلدات حول سيكولوجيا الأطراف الثلاثة.

تنجح السلطات في المجمل في تلميع المصطلحات وإعادة تدويرها ثم تطرحها للشعب بحلة وهيئة جديدتين محتفظة بمكوناتها الأصلية من دون أن تقدم أي مضمون جديد، ويبقى الشعب في حالة انتظار ريثما تؤتي السياسات الجديدة ثمارها، ذلك الشيء الذي لن يتحقق لأن السياسات لم تتغير أصلا إنما ما حصل هو تغيير الشكل الظاهري، وبذلك تضمن الحكومات والسلطات البقاء والاستمرار مستفيدين من رغبة الشعوب في التغيير وبصبرهم في سبيل ذلك، وتستعين السلطات بثلة من المثقفين أو الفنانين الذين يحظون بقبول مجتمعي لترسيخ الفكرة لدى من يثق بهم.

تبدو العلاقة بين الشعوب والحكومات منقطعة وكأن كلا منهم يغرد في واد مختلف، ثم يحدث أن تحصل صحوة عامة فيحدث الانفجار الكبير، ويبقى دور المثقف أو الفنان في تلك اللحظة ليرجح كفة معينة بحسب استقلاله وإيمانه بالقضايا أو بحسب مصالحه.

تستغل السلطة حسن نية الشعوب وانتظار قطف الثمار وقد تصطدم في بعض الأحيان بوعيهم أو بنفاد صبرهم، فتسعى إلى استقطابهم ومحاولة التأثير بهم عن طريق قنوات معينة مع ضخ إعلامي ممنهج.

لا يمكن تعميم حالة محاباة السلطة على المثقفين بعمومهم فقد يزهد كثير من المثقفين في الاهتمام أو خوض غمار الحياة السياسية، وبعضهم قد يفعل، ولكنه يبقى مرهوناً لصوت ليس صوته ولأفكار قد لا تمثله، لكنه يعتقد أنه مضطر لها لحسابات تتعلق بالعوامل النفسية مثل الخوف أو بعوامل تتعلق برفض التغيير. 

لا يبرر للمثقف تخليه عن مسؤوليته في توعية المجتمعات والدفاع عن حقوق المظلومين بحجة أنه لا يود تلويث فكره بالسياسة

وفي الحالتين تعد هذه أقسى أنواع الهزيمة أو الخيانة التي يقدمها للمجتمع لأنه يعد أكثر مسؤولية من غيره تجاه كثير من العلل والأمراض الاجتماعية بسبب وعيه وعلمه المفترض.

لا يبرر للمثقف تخليه عن مسؤوليته في توعية المجتمعات والدفاع عن حقوق المظلومين بحجة أنه لا يود تلويث فكره بالسياسة، فتلك جريمة بحد ذاتها، كما لا يمكن أن يمتنع عن دعم المجتمع ثم يجلس ليلقي اللائمة على تخلفه في المنابر والمنصات.

تبقى العلاقة الثلاثية بين المثقف والسلطة والمثقف والأمة يسودها كثير من الغموض، وأسيرة كثير من المؤثرات المحيطة لكنها تشكل اللبنة الأساسية لنهضة المجتمعات واستقرارها وتحديد ثوابتها التي قد تختلف بفعل الشروط الموضوعية المتبدلة، لكن الأمر الثابت مهما قلبنا في الاحتمالات أنه لا توجد أي سلطة مهما كانت معصومة عن ارتكاب الأخطاء والوقوع في فخ الاستبداد والمحاباة ومن الخيانة الحقيقية أن يتخلى المثقف عن دوره الأساسي في رفع صوته ضدها، أو محاولة تقويمها وحث الشعب ودعمه على رفض الظلم والوقوف في وجهه مهما كان نوعه.