متلازمة المذيع/ العنصر في تلفزيونات النظام..

2023.01.28 | 06:08 دمشق

آخر تحديث: 28.01.2023 | 06:08 دمشق

متلازمة المذيع/ العنصر في تلفزيونات النظام..
+A
حجم الخط
-A

ما إن تنصب كاميرات التلفزيون في أحد الأسواق أو الأحياء السورية التابعة لسيطرة النظام لإجراء ريبورتاج، أو لأية مهمة أخرى، حتى يصاب رواد السوق والعاملون فيه أو سكان ذلك الحي بالتوتر والخوف إلى حدود الذعر، أما عندما يرون المذيع أو المذيعة، ولو عن بعد، فإنهم يتجهزون بشكل لا إرادي لترديد شعارات الولاء، ويشغّلون الرقيب التلقائي الذي نما وكبر وتضخم في دواخلهم بشكل أكبر نتيجة اشتداد آلة القمع وازدياد وحشيتها في السنوات الأخيرة..

وفي حال استوقف المايك أحد المواطنين لسؤاله عن أي شأن حتى وإن كان بعيداً تماماً عن السياسة، فلا بد لذلك المواطن من البحث عن طريقة لمديح سيد الوطن، والجيش الباسل وشتيمة ما يسمى الثورة..

هو رعب ليس من الكاميرا، وليس من أجهزة الأمن، بل من المذيع نفسه الذي يصنفه المواطنون في دواخلهم على أنه مندوب تلك الأجهزة الأمنية، مندوب المعتقلات والمحققين والجلادين، وعندما يحضر المذيع، فإن أولى الصور التي تتراءى لأذهان المواطنين الموجودين في المكان هي صور التعذيب والتغييب والاغتصاب والقتل وصور إكراه الناس على الاعتراف بجرائم إرهابية وحيازة السلاح والارتباط بالخارج والمشاركة في المؤامرة على الوطن، صور إجبار الناس على الاعتراف بقداسة بشار الأسد وجيشه المدافع عن شرف الأمة العربية..

تتراءى تلك الصور المجمعة في رصيد الذاكرة السورية بلمح البصر بمجرد رؤية المذيع حتى لو لم يصطحب الكاميرا والمايك، لأنها تستجر صور اعترافات الكثير من الأبرياء على الشاشة بجرائم لم يرتكبوها، وصورة المذيع/المحقق، صور المذيع الذي يكذّب في الإعلام ما يشاهده الناس على الأرض، إنه باختصار صورة الزيف المسلح، والكذب المحمي بقوات الأمن السورية والإيرانية والروسية.

إنها متلازمة المذيع المخبر، المذيع العنصر، المذيع/السلطة، المذيع القادر على إيذاء المواطن والتسبب في اعتقاله وربما تغييبه نهائياً، المذيع الذي لا تربطه بالإعلام سوى حالة التوحد مع أجهزة الأمن وضباط الجيش.

وإذا ما قدر على أحدهم الوقوف أمام  كاميرا مذيعي تلفزيونات النظام، فعليه البحث عن طريقة لنفي الاتهامات والشكوك التي يفترض أن المذيع يمكن أن يفترضها فيه، وبالتالي فإن عليه أن يبادر إلى إبعاد أي شبهة يمكن أن تحوم حوله، كأن يلحظ المذيع مثلاً أنه ليس شديد الحماس لسيد الوطن ولجيشه الباسل، أو ليس خصماً بالشكل المطلوب لكلمة الثورة، وربما يسارع إلى شتيمة حمد وأردوغان والثناء على دور المقاومة والممانعة والإطراء على الحليف الروسي والإيراني، حتى وإن كان السؤال عن أسعار المواد التموينية، أو عن حفلة فنية، باختصار فإن على المواطن محاولة إقناع المذيع بأنه وطني بالطريقة والمقاييس التي يريدها سيادة الرئيس، حتى وإن لم يقم بالإجابة عن سؤال الريبورتاج.

بعض من يتورطون ويشتكون من الغلاء، لا ينسون أن يحملوا مسؤوليته للحصار الغاشم على سوريا، وللإمبريالية العالمية، وللصهيونية وقانون قيصر

يجيب المواطنون عندما يقفون أمام كاميرات النظام عن أسئلة لا تطرح عليهم، ويحشرون المديح حشراً حتى وإن لم يكن سياق الحديث يتطلب ذلك لتلافي أي موقف قد يتورطون من خلاله فيما لا تحمد عقباه، وتشتغل ميكانزمات دفاعاتهم الداخلية تلقائياً لإبعاد المخاطر التي يشكلها حضور المذيع.

بعض من يتورطون ويشتكون من الغلاء، لا ينسون أن يحملوا مسؤوليته للحصار الغاشم على سوريا، وللإمبريالية العالمية، وللصهيونية وقانون قيصر، أما من ينزلق ويذكر شيئاً عن الفساد، فليس أمامه سوى أن يرقّع ورطته بتحميل مسؤولية ذلك الفساد لبعض المسؤولين الصغار، على أن يتوجه بالتوسل للسيد الرئيس للتدخل وإيجاد حل للفاسدين كونه الوحيد القادر على ذلك..

وفي الاستديو، وأثناء البرامج الحوارية، فسوف نلحظ تراتبية واضحة في موقع الأهمية، فالمذيع، أو مقدم البرنامج لا يطرح أسئلة، بل يطرح أجوبة على هيئة أسئلة وعلى الضيوف إقرار تلك الإجابات والتأكيد عليها من خلال إعادة صياغتها بجمل أخرى أو بأسلوب آخر، أو حتى تكرارها حرفياً.

يمارس المذيع هنا دور الموجه والرقيب، وبشكل أدق دور الملقن، لا حوار في البرامج الحوارية وإنما تكرار لمسلمات الخطاب الأمني، لعبة كلامية متفق عليها ضمناً أو تصريحاً، يشترك فيها الضيوف ويديرها المذيع، لعبة معروفة القواعد والخطوات والنتائج.

ورغم أن الولاء المطلق للقيادة شرط أساسي لحضور أي ضيف على قنوات النظام، إلا أن الجميع مشكوك بهم، وهم يعرفون تماماً أنهم مشكوك بهم حتى لو كانت سيرتهم الذاتية مليئة بمديح سيد الوطن، لذلك فعليهم في كل مرة مديح الذات الرئاسية وتكرار الخطاب المعتمد دون ملل.

على الضيوف أيضاً أن يُقفلوا بإحكام منطقة اللاوعي لديهم، فلربما انتهز اللاوعي فرصة غياب الوعي وصدرت عنه هفوة غير مرغوب فيها، كاستخدام كلمة "ثورة" دون إرفاقها بكلمة "ما يدعى"، أو استخدام مصطلح الجيش الحر ونسيان ربطه بالإرهاب أو الجماعات المسلحة، أو كلمة معارضة دون أن يقول "ما بين قوسين"، شريطة أن يشير إلى القوسين بإيماءات من يديه أيضاً.

ولربما كان من أطرف ما يحدث في البرامج السياسية أن يستضيف البرنامج أكثر من ضيف، وذلك يعني منطقياً أن يكون لكل ضيف وجهة نظر تبرر استضافته، ولكن على شاشات النظام فإن المنطق مختلف تماماً، فالضيف يعرف الأسئلة وإجاباتها المحددة والمرسومة، وعلى الضيوف جميعاً أن يكونوا متوافقين في الرأي، وأن يدعم كل منهم رأي الآخر ويثني عليه، وألا يحيدوا عن الإجابة التي يحددها المذيع من خلال سيطرته على البرنامج ومن خلال الشيفرة المعتمدة من قبل أجهزة الأمن.

ورغم غياب احتمالات الخطأ من قبل الضيوف على تلفزيونات النظام، إلا أن المذيع يبدو شديد الحرص على ضبط إيقاع الحوارات ليجدد للقيادة بدوره ولاءه وانتماءه، إلا إذا كان الضيف ثقيلاً على المستوى الأمني، فعندها يتوارى المذيع ويختار الموقع الأضعف، لأنه يتحول هنا من رقيب إلى مُرَاقب من قبل الضيف نفسه.

إن دققنا في أداء المذيعين والمذيعات ومقدمي البرامج والمحاورين العاملين في تلفزيونات النظام، -أو حتى إن لم ندقق- سنقع على سمة لا تفارقهم أثناء ظهورهم على الشاشة، ألا وهي إحساسهم وثقتهم بأنهم في موقع سلطة، وبالتالي يبدو سلوكهم وطريقة أدائهم أقرب لعمل عناصر الأمن والمحققين والمخبرين، وتبدو صورة الاستوديو مظهراً مزيفاً منمقاً للفرع الأمني.

إحساس المذيع بالسلطة يبدو جلياً من خلال مجموعة معطيات على رأسها العنجهية التي لا تفارقه بدءاً من طريقة تقديم نشرات الأخبار مروراً بالبرامج الحوارية وليس انتهاء بالريبورتاجات التي يجريها في الشارع مع الجمهور البسيط أو لقاءاته مع المتخصصين.

تلك العنجهية لا تتأتى في الواقع من استناد إعلاميي النظام على "السلطة الرابعة"، أي سلطة الصحافة بما لها من ثقل في كل دول العالم باعتبارها السلطة الحقيقية، بل تتأتى من ارتباطهم الوثيق والمباشر بالسلطة الأولى والوحيدة في سوريا الأسد وهي السلطة الأمنية.

السمة الأخرى التي تظهر واضحة أيضاً في أداء المذيع، تتمثل في صفاقة تصدير الزيف على أنه عين اليقين وكبد الحقيقة، المذيعون يعون تماماً أنها حقائق مفروضة بالقوة، ولكنهم يلتزمون بالوصفات الجاهزة القادمة من قبل أجهزة الأمن ويتبنّونها ويفرضونها على متابعيهم مهما كانت درجة الكذب والتلفيق فيها واضحة، ويمتلكون من الوقاحة ما يجعلهم يكذّبون ما اتفق عليه العالم، بلا سند أو دليل باستثناء الماكينة القمعية التي يعتبرونها المرجع الأعلى للحقيقة.

أبرز العوامل التي تُظهر سلطة المذيع، تتمثل في الحديث عن الأخلاق والشرف والوطنية، والقدرة على تخوين أي سوري، الأمر الذي يخلق من خطابهم واقعاً كاريكاتورياً،

السمة الثالثة تتعلق بالقدرة على تحويل الأخيلة والمواقف التي تثير السخرية إلى مصطلحات جدية، كالحديث عن السيادة والنصر، وشعارات الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة، رغم الواقع العملي الذي يفقأ العين والمُنافي تماماً لتلك الصورة المتوهمة التي يسعى المذيعون إلى ترسيخها.

وأبرز العوامل التي تُظهر سلطة المذيع، تتمثل في الحديث عن الأخلاق والشرف والوطنية، والقدرة على تخوين أي سوري، الأمر الذي يخلق من خطابهم واقعاً كاريكاتورياً، ولكن، ممنوع منعاً باتاً الضحك على كاريكاتيرات النظام أو التعامل معها على أنها مادة مثيرة للسخرية. 

منذ أول مظاهرة خرجت تهتف ضد الأسد، كثف تلفزيون النظام برامجه لتزوير ما يحدث في الشارع وتكذيب كل الوقائع واختلاق حقائق مفصلة على مقاس الرئيس، ومن وقتها بدأت المنافسة بين العاملين في مؤسسات النظام الإعلامية على إثبات الولاء والفوز بثقة الأجهزة الأمنية.

عندها، كان الصمت أو الحياد ممنوعين تماماً على العاملين في تلك المؤسسات، وكان عليهم أن يكونوا جزءاً من المطبخ الإعلامي المخابراتي قبل أن تنتقل الوجبات المحشوة بالسُمّ والتي يجهزها ذلك المطبخ إلى واجهة المطعم الإعلامي المسمى قنوات تلفزيونية.

لم تطل عملية فرز الانتماءات في مؤسسات إعلام النظام في بداية الثورة، حيث لم تكن ثمة فسحة للتردد وإضاعة الوقت، ولهذا لم يطل بقاء كل من لم يكن متوافقاً مع إرادة المطبخ الأمني، فمن اعتقل ومن قتل ومن استطاع الهرب في اللحظة المناسبة.

قلة قليلة ممن بقوا في مؤسسات النظام الإعلامية وهم في داخلهم ضد النظام، كان عليهم بالحد الأدنى التظاهر بأنهم مؤيدون، وعليهم أيضاً أن يتبنوا رواية النظام ويحفظوها عن ظهر قبل ويرددوها أينما حلوا، وهؤلاء هم الفئة المجبرة التي لا حول لها ولا قوة، ومع ذلك بقي هؤلاء فئة مشكوكاً في أمرها، وما يزالون موضوعين تحت المجهر.

كان المذيعون هم الأكثر حماسة في إظهار الولاء كونهم يحتلون الواجهة الإعلامية من خلال ظهورهم على الشاشات وشهرتهم لدى الجمهور، ورغم كل المكاسب التي كان هؤلاء يسعون إلى تحقيقها من خلال كسب ثقة النظام ووده، إلا أن المكسب الأساسي الذي سيطر على اندفاعتهم وكان سبباً أساسياً لها هو سعيهم للتحول إلى جزء من السلطة، ولتذهب قداسة العمل الإعلامي وقداسة الصحافة إلى الجحيم.