icon
التغطية الحية

مبضع "الجرّاح" في الأسطورة الشعرية

2022.10.27 | 11:39 دمشق

جراح
+A
حجم الخط
-A

يتحدث النقاد في فترة سابقة من القرن عن ظاهرة  الشعراء التموزيين، الذين اتكؤوا على الأسطورة التموزية من أجل بناء مقاربتهم الشعرية مع الواقع المعاش. استمرت هذه النظرية واتسعت لتشمل أعداداً من الشعراء العرب من سوريا والعراق ولبنان والأردن... على رأسهم : يوسف الخال، خليل حاوي، بدر شاكر السياب، و آخرون.

اليوم يمكننا وبكل جرأة إعلان إستعادة أو ولادة مرحلة شعرية مختلفة وجديدة تتمثل في"استعادة الشعر الهلنستي"، فبعد انقطاع قارب الألف عام، منذ نهايات الشعراء السوريين الأوائل ممن بنوا المجد للغة اليونانية، صوراً و مقاربات و أشعاراً  ومجازاً،  أمثال ميلياغروس من جدارا وأنتيباتروس الصيداوي، وفيليديموس، سمح ذلك لدم  أكثر حرارة من جنوب المتوسط أن يتدفق في عروق الإمبراطورية الناعمة الهلنستية العظيمة، تلك الإمبراطورية التي بنيت من الأفكار والفلسفة والشعر والمناظرات والمحبة. وما الحضارة الهلينية إلا تلك اليونانية بعد أن امتزجت بحضارات الشرق العظيمة.

يستعاد اليوم هذا المجد مع مجموعة من المثقفين السوريين، في مجالات شتى، من الرواية إلى الشعر، وعلى رأسهم الشاعر السوري البريطاني نوري الجراح، الذي أخذ على عاتقه مهمة استنهاض الأسطورة والمعنى السوريين في الثقافات الأوروبية المتوسطية.

ولعل هذا المعنى الذي تبدو مقاربته في أيامنا هذه تستدعي الألم والتعاطف والحزن، فإن العكس تماماً يظهر في أشعار الجراح، التي تنبثق من رحم الأسطورة السورية/ الهلينية المنتسبة إلى نفسها وإلى العالم، لتكون حجراً ملوناً في فسيفساء ضخمة تعطي معنى للزمن الذي يراقبنا من بعيد، تلك الأسطورة التي تشع ألقاً و فخراً، من صوت شعري متفرد و مستقل، صوت لا يبدو أنه ينتمي لسوريتنا هذه بقدر ما ينتمي إلى عالم قضى وانقضى، عالم كانت سوريا بالألف الممدودة الكبرى فيه، جزءا من عالم أكثر حيوية، منفتح على نفسه، وعلى الأقصى، دون أي عقد خوف و رتابة، فكانت الأحرف والأبجدية السورية تناطح في أفكارها فلاسفة و شعراء أثينا وطروادة وإسبارطة و روما... ولعل من نافل القول أن نستذكر أولئك الأباطرة والفلاسفة والمثاليين والنحويين والشعراء والأبطال، الذين انتشروا في العالم الهلنستي المفتوح أمامهم. أوليس هذا ما يجري اليوم أيضاً، بفارق الحرية في الانتشار؟

تلك ببساطة هي رؤية صاحب (لا حرب في طروادة) و(الخروج من شرق المتوسط)، رؤية شعرية فلسفية معاصرة، تستدعي الأسطورة لتبيان المعاصر الحالي، حين نقرأ:

"عندما تسطع الشمس على الشيء الصغير وهو يلتهم الشيء الكبير، ويهفو الهدوء الغامر ليصالح الطبيعة الهائجة على مرأى من عمل الموت".

ولكن فرجار الشاعر الذي يتموضع رأسه الحاد الأول فوق واحات تدمر، اتسع حتى وصل نظيرُ رأسه الحاد إلى الجزر البريطانية، وكأن بالشاعر الجراح لم يرتو من أساطير السوريين الذين ملؤوا المتوسط بقصص فخرهم و عشقهم و بطولاتهم وأحزانهم. فعبر مضيق جبل طارق ووصل إلى هناك إلى جزر الضباب البعيدة، ليعود إلينا بقصة "برعتا" التدمري و حبه المجنون للحميراء "ريجينا" السلتية التي عشقها حتى الوله، وتركته في ريعان الثلاثين بعد أن سقطت فريسة للمرض والتعب، فخلدها بسطر شعري كتبه بلغته التدمرية فوق شاهدة قبرها السلتي، ليحدثنا الجراح بعد قرون طويلة عن قصة الحب الخالدة تلك..التي امتدت من ضفاف الفرات السوري حتى عمق بريطانيا.

ما إن تدخل عوالم الجراح الشعرية، حتى ينبثق لديك عالم ممتد من بوادي بلاد الشام حتى شواطئ الضباب البعيدة

من هنا ينطلق الشاعر الهلنستي الجديد، مشرّحاً الوجع السوري، وجع الرحيل، رحيل برعتا عن بلاده والتحاقه بجيوش سبتيموس سيفيروس التي عبرت به أوروبا حتى بريطانيا ليكون "الأفعوان الحجري" وجهاً آخر لشعر (الهيلَنة) المستعاد. وألم الفراق عن المحبوبة التي كانت بشكل من الأشكال كناية عن الوطن الأم.

"هل كان يمكن لي أن أكون.

لولا أنك هنا يا ريجينا؟

لولا أنني هبة اللات لروح الغابة، وأنت مرح الضوء بعد طيش الغزالة".

فما هي الهيلنة التي يقترحها الجراح في مشروعه الشعري الضخم؟ إنها عبارات الانفتاح على الآخر، التواصل الناعم الصقيل بين الحضارات، إنها دماء الشرق تختلط عشقاً بدم الغرب، الهلينة بحسب الجراح هي الرقص مع (اللات) في الغابات السلتية، إنشاد أغاني (مناة والعزى) في سهوب بحر الشمال أو ربما شواطئ صقلية و كريت، هي شد الشرق إلى الغرب لإنتاج مفاهيم جديدة، وجذب الغرب إلى الشرق لإنتاج مماثل.

ما هي الهيلنة إلا هُيام من تغرب الشمس عندهم بسهوبنا الشقراء، ورغبة أبناء الشمس الحارقة بواحة يفيئون بها بعد سنين من العيش.

فما إن تدخل عوالم الجراح الشعرية، حتى ينبثق لديك عالم ممتد من بوادي بلاد الشام، حتى شواطئ الضباب البعيدة، حيث فرت أوروبا الصبية الشابة من قصر أبيها في صيدا نحو الأرض المبللة دوماً بمطر الرب، عالم  يحمل معه غبار الأساطير وأوجاع المقاتلين الذين لا صوت لهم، مع آهات الأباطرة و الملكات، يسير كقافلة أو موكب من جنود مدججين بالكبرياء، حاملين هودج القصيدة المعتقلة من الشرق ليطلقونها كحمامة أو ربما كعنقاء في سماء شمال المتوسط، عوالم تمرُ بأنطاكيا ودمشق وصيدا والإسكندرية والجزائر والمغرب، كريت وصقلية وكالابريا.

(وهؤلاء التدمريون الشجعان يوترون الأقواس في الحصون والأبراج، ويموجون على عربات تحمل الدروع والحراب والرايات).

كل هذه الملاحم الممتدة التي طوتها دفتي كتبه، والتي لا تخلو من معارك وحروب وقتلى وخيانات وأساطير وآلهة، لا تنسى أبداً أن الصوت القادم من الشرق هو صوت برعتا الأسمر حامي الرأس والقلب، الفحل الشرقي المترع بالألم و الحب... فيصف الشاعر برعتا العاشق الذي دفن معشوقته الحميراء السلتية بيديه ومن ثم دفن معها في ذات الأرض، وكأنه يصف كل الشعراء الهلينيين المتناثرين في العالم بصوت واحد:

"دمي قشعريرة ذئب جريح ، وصوتي عواء غابة تحترق".

لتكون أقوى جملة شعرية تصف هذا العالم الذي نعيشه.

لنتلمس في نهاية قصيدته الطويلة، أن مرثية برعتا لمحبوبته هي ليست فقط مرثيتنا جميعاً، وليست مرثية مهاجر في بلاد المحبوبة التي تركته وحيداً، بل هي أسطورة واحدة، وليست أسطورتان، فنحن نعيش في عالم واحد، عالم متشاطئ، وما علينا فعله هو فقط إزالة كل تلك الكتل من الأوهام التي تفصل الشمال عن الجنوب، وليس الشرق عن الغرب، فنحن أبناء تلك الشمس جميعاً، نشرق معها، ونغرب معها، نحن أبناء أسطورة واحدة، ولسنا في سياقين مختلفين أو متعاكسين. بحيث لا يبدو النص فيما قبل القصيدة إلا جزءاً أساسياً من نثر الشعر والأسطورة، لندخل في عمق المعاني في متن القصيدة ذاتها، تأملات ذلك المقاتل التدمري الذي حرر الصبية السلتية من أسر العبودية ومنحها ملكوت قلبه.

لتصير القصيدة نزالاً وجدانياً، أو انعكاساً بين المتن والهامش، بين القصيدة والشاعر، بين الخالق والمخلوق، فها هو بطل القصيدة\ الأسطورة يخاطب الشاعر، بعين جريئة و قحة:

"أنت يا من تقف لتقرأ كلماتي المرتجفة من البرد، هل وصلت مثلي، على مركب من خشب الأرز المجلوب من جبال نوميديا، أم على طوف ألقت به سفينة قرب شاطئ في بحر الشمال؟

لست حامل بيارق، ولكنني تاجر أقمشة من الشرق..

ولئن تركت سيفي عند النهر

فليبارك البعل خطوتي إلى البيت وليصفح عن إثم يدي".

ها هو المقاتل السابق، الجندي المدرع، يقدم صلاة خشوعه أمام إلهه الشرقي، في حضرة الشاعر ذاته، وكأن الشاعر بات شاهداً على الأسطورة، و على الغفران الذي يقدمه الرب إلى كل خطاة الجيوش ممن استباحوا الدم الانساني، مهما كان هذا الدم و مهما كانت تلك المعارك، فالقاتل يقتل، والضحية تموت، في كل مرة.

والشاعر يدون كل هذا لنا وللتاريخ .