ما يطلبه الجمهور

2021.03.30 | 06:41 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعتقد بأن أقدم برنامج "حواري" مستمر في المحطات الفضائية العربية هو الذي يقدمه الإعلامي فيصل القاسم على شاشة محطة الجزيرة تحت عنوان "الاتجاه المعاكس". ولقد سبق لي أثناء قيامي بتحضير حلقة بحثية في إطار دراساتي العليا في تسعينيات القرن الماضي، أن اهتممت علمياً بالبرنامج شكلاً ومضموناً. وقد كان مبعث اهتمامي حينذاك هو دراسة ظاهرة جديدة لم يعرفها العرب في محطاتهم الوطنية وكدت أن أقع في فخ التقييم الإيجابي لهذه التجربة "الرائدة" و"الجريئة"، إلا أنني سرعان ما تأنيت في استخلاص النتائج بالاعتماد على المنهج المقارن. فالقائم عليه في المحطة حديثة العهد آنذاك (أُسست سنة 1996) أشار إلى أن نموذج الحوار الذي يعتمده هذا البرنامج مستقى من حوارات المحطات الغربية وخصوصاً البريطانية. وكطالب علم، وددت لو أتعرف أكثر على ما يستند إليه هذا التبرير خصوصاً أن صاحبه أتى للمحطة من الهيئة العامة للإذاعة البريطانية.

بعد عشرات الساعات من المشاهدة للبرامج الحوارية في المحطات البريطانية والفرنسية، تبين لي بألا وجود لبرنامج مشابه في المجال السياسي على أقل تقدير وفي تلكم المرحلة الزمنية. وكان من الممكن متابعة برامج غربية تعتمد التهييج والصراخ وحتى اللكمات، في برامج تبثها المحطات الخاصة التي تعتمد على الإثارة في التطرق إلى مشكلات اجتماعية، غالباً ما ارتبطت محاورها بموضوعات تعالجها الصحف الصفراء ومجلات الورق المصقول. أما الحوارات السياسية، فمهما بحث مقدموها عن الإثارة، يبقى لها حد أدنى من القواعد المهنية التي تُلزِم المشاركين كما المنشط بتقديم مادة يخرج بنتيجتها المشاهد بشيء ما مهما كان ضئيلاً لفهم حدث بعينه أو لمناقشة موقف سياسي مع الابتعاد عن الصراخ والغضب اللذين لا يوصلان إلا إلى نفور المتابع من السياسة.

المدافعون عن هذا الأسلوب يعترضون بشدة على نقده مهما اعتدل هذا النقد معتبرين، وعلى رأسهم مقدم الحوار، بأن الانتقاد يستند إلى "شدة في التهذيب غرقنا فيها نحن العرب" والتي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من "خوف قول الحقيقة والتعبير بحرية" عما ما تختلج به أفكارنا. فالناقد إذاً لهذا الأسلوب يبحث عن المثاليات التي لا تُغني من جوع لحرية التعبير وصراحة الكلمة تميّز به الفضاء الإعلامي العربي سابقاً. ويزيد من يدافع عن حلبة الملاكمة المتلفزة بالقول بأن المحطات تعتمد أساسًا في تقييم برامجها على نسبة المشاهدة وبالتالي، فهذا البرنامج يحصد أعلى هذه النسب. وبالتأكيد، فهذا الكلام دقيق ولم يكن للمحطة أن تتابع البرنامج كل هذه الفترة الطويلة نسبياً إن لم يكن يحصد نسبة عالية من المتابعين ويؤدي رسائل سياسية ما. كما بالمقابل، يتم وقف بث برامج هادفة تحترم المشاهد وتعتبره إنساناً عاقلاً كبرنامج "خير جليس" للباحث والإعلامي خالد الحروب، لأنه يستعرض في حلقاته كتباً مع مؤلفيها وقارئين لهاـ هدوؤهم لا يرفع من نسبة المشاهدات ولكنه يُثري الفكر لمن يسعى.

الاعتماد على التهييج والصراخ الذي أسس له هذا البرنامج يُخشى أن يؤسس لـ "مدرسة" إعلامية جديدة في الفضاء الإعلامي العربي

إن نسبة المشاهدات هي معيار أساسي في اختيار برامج المحطات التجارية، وهذا أمر مسلم به، خصوصاً في ظل المنافسة القائمة في فضاء الإعلام الخاص والباحث دوماً عن البقاء. وهذه المحطات تسعى إلى الإبقاء على برامجها المُدرّة للإعلانات التي تلحق بنسبة المشاهدات دون التوقف عند محتواها كثيراً. أما الإعلام الذي لديه رسالة أو هدف تأثيري ما، خاصاً كان أو عاماً، فهو يتجاوز هذا المعيار السوقي ـ من السوق ـ ويبحث عن التمايز من خلال المستوى والنوعية. وهذا هو هدف الجزيرة أساساً كما أوضحت ذلك في دراستي الأولى عنها والتي صدرت باللغة الفرنسية سنة 1997.

وإن لم تخني الذاكرة، فقد خلصت دراستي حينها إلى أن الاعتماد على التهييج والصراخ الذي أسس له هذا البرنامج يُخشى أن يؤسس لـ "مدرسة" إعلامية جديدة في الفضاء الإعلامي العربي وسيغري الكثيرين باستنساخه. وبمرور الزمن، تبين أن هذا هو ما بدأ بالتطور تدريجياً في العديد من المحطات سعياً لرفع نسبة المشاهدات وليس بحثاً عن تأثير ما أو حتى رغبة في توجيه رسالة سياسية ما. كما أن بعض المحطات الأجنبية التي تبث بالعربية كفرنسا 24، والتي تمايزت في حواراتها السياسية بداية عن هذا التوجه، سرعان ما مال معدو حواراتها السياسية إلى البحث دائما عن خلاف يشتد دون تدخل يذكر من المذيع الذي يعبر عن رضاه بابتسامة محايدة ومترقبة.

ربما يجد البعض هدفاً ما لمثل تلكم الحوارات ولا أجده أنا، ولكنني، كمدرّس متواضع لمادة الإعلام، أنصح الطلاب دائماً بأن يقوموا بعملهم بشكل جدي ويُغنوا حواراتهم بالمعلومات المفيدة. كما أنني لا أنهاهم عن استضافة أصحاب الأفكار المختلفة والمواقف المتناقضة، على العكس، ولكنني أشجّعهم على أن يفكروا دائما بما سيخرج به المتلقي من معلومات وأفكار وطرائق تحليل.

التوتر والصراخ والتهييج عوامل تُفقد الحوار رسالته التي تشجع على تبني الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، ويدفع الناس للتندم على قمع الكلمة حيث لا يبدي أحد رأيه. أما الحوار الهادئ والذي يعرض لوجهات نظر مختلفة، مع اشتداده أحياناً ليحمل مواقف مغلقة، فهو يمنح الممارسة الديمقراطية إيجابية تجذب الجميع لتبنيها وللسعي إلى تحقيقها.