
لا تقل حاجة سوريا كبلد مدمر أنهكته الحرب على مدى 14 عاما، إلى إعادة إعمار مادي قد تستغرق سنوات، وتصل كلفته إلى مليارات الدولارات، نظراً لحجم الخراب والدمار الذي خلفته آلة الإجرام الأسدي، لا يقل ذلك عن حاجته إلى إعادة إعمار وترميم على المستوى الاجتماعي.
فالانقسامات الطائفية والعرقية التي تفاقمت خلال الحرب والتي عمل النظام على زرعها بين الناس لن تُمحى بسرعة، إلى جانب ذلك أدى تحول سوريا إلى بلد متعدد مناطق السيطرة والنفوذ لسلطات الأمر الواقع خلال تلك الفترة إلى خلق ولاءات محلية وطائفية، قد تتفوق في كثير من الأحيان على الولاء الوطني.
أمام هذا الواقع سيحتاج المجتمع السوري إلى جهود كبيرة من المسؤولين والمؤثرين ووسائل الإعلام والتواصل ورجال الدين، ووضع برامج لسد الفجوات التي خلفتها الحرب، ولإعادة ترميم اجتماعي يسهم في تحقيق العدالة والحرية، وبناء الثقة بين مكونات المجتمع كافة.
الاستقرار السياسي كمقدمة
من بين التحديات الرئيسية التي تواجه سوريا الآن هو إرساء أسس مرحلة انتقالية تمهد الطريق للانتقال من الوضع المؤقت الحالي إلى نظام حكم سياسي دائم، وما يدعم هذا التوجه هو وجود ما يشبه الإجماع بين مختلف المكونات السورية على ضرورة وضع الأسس الرئيسية لعملية الانتقال السياسي في أقرب وقت ممكن لضمان الاستقرار على كافة المستويات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
وكخطوة لتحقيق الاستقرار السياسي والدخول في المرحلة الانتقالية، قال الرئيس أحمد الشرع في خطابه الموجه إلى الشعب في 30 كانون ثاني: سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة، تعبر عن تنوع سوريا برجالها ونسائها وشبابها، وتتولى العمل على بناء مؤسسات سوريا الجديدة حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرة نزيهة.
وأضاف سأعلن عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر يملأ هذا الفراغ في المرحلة الانتقالية، وكشف الشرع أنه سيعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، وبعد إتمام هذه الخطوات، سيُكشف عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية.
وتعليقاً على هذا الجانب تقول كندة حواصلي مديرة الوحدة المجتمعية بمركز الحوار السوري إن إعادة الإعمار المجتمعي يجب أن تُسبق بمرحلة استقرار سياسي -ولو بشكل جزئي- يكون أساساً للاستقرار الأمني والاقتصادي.
وتضيف حواصلي في حديثها لموقع تلفزيون سوريا عندما يتوفر للناس الحد الأدنى من الخدمات والحد الأدنى من الأشياء التي هم بحاجتها، يمكن أن نفكر فيما بعد كيف يمكن أن نرأب الصدع المجتمعي، وكيف يمكن أن تنطلق مسار عدالة اجتماعية راسخة يمكن الناس من أخذ حقوقها.
وإلى جانب الأموال التي يقدمها المانحون لإعادة الإعمار المادي للبنية التحتية في الدول الخارجة من الحروب، توضح الباحثة حواصلي أن قسم من هذه الأموال يخصص لإعادة إعمار التراث غير المادي، كالرموز الثقافية والأثرية والمعالم المميزة للدولة، إضافة إلى بعض الأنشطة الأخرى التي تندرج تحت بند إعادة الإعمار الاجتماعي، التي تشمل بناء السلام والحوارات المجتمعية وإعادة تأهيل المقاتلين ونزع السلاح وأشياء أخرى.
ما دور العدالة الانتقالية؟
يؤكد كثير من الحقوقيين أن تجاوز الانقسامات وتحقيق المصالحة الاجتماعية في سوريا، يعتمد بشكل أساسي على تحقيق العدالة الانتقالية، بالمقابل فإن أي إخفاق في هذه العملية قد يؤدي إلى اضطرار بعض الأطراف المعنية لمباشرة الانتقام، ومن ثم فتح باب لانتكاسة ودوامة من الصراع الجديد، نظرًا لجرائم النظام المخلوع خلال خمسة عقود، وبشاعة ممارساته التي أدت لقتل وإخفاء مئات الآلاف من الناس.
وإلى جانب المحاكمات التي تطول المتورطين بجرائم حرب، وانتهاكات ضد أبناء الشعب السوري، عادة ما تشمل العدالة الانتقالية أيضا فتح باب الحوار والتسامح كمسار إضافي لبناء الثقة والترابط بين فئات المجتمع المنقسمة، وقد يكون هناك نوع من العفو العام لفئات من أفراد النظام السابق.
مسار العدالة الانتقالية يشكل -بحسب الباحثة حواصلي- خطوة في طريق التعافي، لأن هذا المسار يسمح بجمع المعلومات والأسباب التي أدت لارتكاب هذه الانتهاكات والتعلم، بمعنى إذ لم يدرس السوريون الطرق التي سمحت للسلطات بالتغول أو للأفراد بالإفلات من العقاب، فهذا قد يؤدي إلى تكرار السيناريو.
وتتابع حواصلي أن العدالة الانتقالية هي ضرورة للوصول إلى من الجهات والأشخاص الذين اتخذوا قرارات المجازر والانتهاكات، وخاصة بعد ضياع نسبة من الوثائق وإحراق قسم منها أيام التحرير.
وعلى صلة بهذا الملف قال الرئيس السوري أحمد الشرع في خطابه الموجه للشعب إن من أولويات المرحلة الانتقالية تحقيق السلم الأهلي، وملاحقة المجرمين الذين ولغوا في الدم السوري، وارتكبوا بحقنا المجازر والجرائم، سواء ممن اختبؤوا داخل البلاد، أو فروا خارجها، عبر عدالة انتقالية حقيقية.
وبعد يوم من سقوط النظام طالبت جهات حقوقية دولية بتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، إذ أكد مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، الإثنين 9 كانون الأول/ديسمبر، على أهمية وضع حقوق الشعب السوري في جوهر العملية الانتقالية، مشددا على ضرورة حماية جميع الأقليات وتجنب الأعمال الانتقامية.
دستور وعقد اجتماعي جديد
تمتاز سوريا بنسيج اجتماعي متنوع من مختلف الأديان والطوائف والقوميات، هذا التنوع يمثل مهمة قد لا تكون سهلة أمام الحكومة الانتقالية، وتتمثل بقدرتها على صياغة عقد اجتماعي جديد، يتجاوز الانقسامات التاريخية، والطائفية التي رسخها نظام الأسد، ويؤسس لأسس جديدة من التماسك الاجتماعي.
وتعليقا على ما سبق يوضح الباحث الاجتماعي محمد ديرانية أنه بسقوط النظام السوري تلوح فرصة جوهرية لتفكيك "العقد الاجتماعي الطائفي"، الذي جعل الدولة آلة قمعية قائمة على الولاءات والمحاصصة والمصالح النفعية.
ويتابع ديرانية في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن هذا التفكيك لا يقتصر على تغيير النخب الحاكمة، بل يمتد لإعادة تشكيل وبناء عقد اجتماعي جديد يتم فيه تفكيك ظاهرة "المواطن المقهور" واستبداله بـ "المواطن الفاعل الحر"، الذي يمتلك إرادته وقراره، ويشارك بوعي ومسؤولية في صياغة المجال العام، بعيدًا عن الإملاءات السلطوية أو الهويات المفروضة.
وكانت الإدارة الجديدة قد شددت على لسان أحمد الشرع في أكثر من مناسبة على أهمية صياغة "عقد اجتماعي" وطني جامع، من ذلك تشديد الشرع خلال لقائه وفداً من السويداء في 17 ديسمبر/كانون الثاني الماضي أن يكون هناك "عقد اجتماعي" بين الدولة وكلّ الطوائف في بلده لضمان "العدالة الاجتماعية"، وأضاف أنّ "سوريا يجب أن تبقى موحّدة، وأن يكون بين الدولة وجميع الطوائف عقد اجتماعي لضمان العدالة الاجتماعية"
وعن أهمية ارتباط العقد الاجتماعي بدستور جديد يشير ديرانية إلى أن الدستور هو مرآة للعقد الاجتماعي وقيمه وثقافته وتطلعاته، وباعتبار ذاكرة العنف والخوف الذي قامت عليه الدولة الأمنية، فإن أي عقد اجتماعي جديد لا يمكن أن يكون مجرد تعديلات شكلية على البنية السلطوية، بل يجب أن يتضمن داخله قطيعة بنيوية ومؤسساتية كاملة مع منطق وهيكل "الدولة الأمنية".
وعليه -يردف ديرانية- فإن أي عقد اجتماعي جديد يجب أن يكفل إعادة هندسة العلاقة بين المجتمع والدولة، بحيث لا تكون الدولة قوة استيعابية تلغي الفاعلين الاجتماعيين، بل إطارا ينظّم التعددية المؤسسية، من خلال ضمان الحق الدستوري في تأسيس المنظمات والنقابات والاتحادات.
ترسيخ مبدأ المواطنة
المواطنة تقتضي مساواة الأفراد أمام القانون والدستور، ما يعني حصول المواطن على حقوقه كاملة وأداء واجباته على أكمل وجه، من دون تمييز (طائفي أو عرقي) أو مضايقة أو إلغاء أو تهميش، والحقوق تضمن له حق المشاركة في المجتمع السياسي أو المدني كما تضمن له ممارسة حقوقه المتنوعة الأخرى.
وبناء عليه تبدو الحاجة ملحة جداً لترسيخ فكرة المواطنة بين السوريين، بعد أن جرى تهميش الغالبية منهم على مدار خمسة عقود من حكم الأسدين، وحرمانهم من المشاركة الحقيقية الفعلية في أي شأن يتعلق بإدارة الدولة.
ولتجنب أخطاء وكوارث الماضي تشير الباحثة كندة حواصلي إلى أن عملية إعادة الإعمار بكل أشكاله المادية والثقافية وحتى المجتمعية يجب أن تكون موزعة بشكل كامل بحيث لا يتم تهميش أو حرمان أحد، كأن يتم إشراك طائفة أو عرق معين، أو يتم التركيز على العاصمة من دون الأطراف مثلا.
من جانبه يرى الباحث ديرانية أن المواطنة، ليست وعدا نظريا تُسوِّق له الخطابات التطمينية، بل حق يُنتَزَع عبر عدالة مؤسسية ملموسة، وإعادة توزيع القوة بين السلطة والمجتمع، بحيث لا تكون الدولة مانحًا للحقوق، بل إطارًا ضامنًا لتكافؤها، وحارسًا لذلك التكافؤ أيضا.
أخيراً لا بد من التأكيد على أن مهمة تحقيق الوحدة الوطنية وبناء مجتمع متماسك، لا تبدو سهلة بالنسبة للحكومة الانتقالية؛ إذ تتطلب هذه المرحلة اعتماد سياسات تضمن المساواة والعدالة الاجتماعية، ويتطلب ذلك ترسيخ قيم المواطنة والحريات من خلال برامج ثقافية وتوعوية، تُعزز التعايش السلمي، والانتماء الوطني، وتُعمّق الثقة المجتمعية.