ما بين أول شهداء للديمقراطية وضياع هيبة السلطة التشريعية

2021.04.24 | 06:09 دمشق

alatda-ly-albrlman-alswry.jpg
+A
حجم الخط
-A

إنه لمن المفارقة في تاريخ سوريا أن الفترة التي كانت قد وصلت فيه السلطة التشريعية والديمقراطية معاً لقمة هيبتها، ترافق ذلك مع بداية انحدارها وانحدار الديمقراطية معها ليتم إحلال السلطة التنفيذية بدلاً منها، مترافقاً مع إحلال الديكتاتورية بدل الديمقراطية حتى اختفى كل شيء من الأولَيَين ليكون كل شيء للأخيرتين لاحقاً.

في مثل هذا الأيام، وتحديداً في يوم ٢٩ أيار من عام ١٩٤٥ كانت حامية الدرك السوري أمام البرلمان تقف في الساعة السادسة مساء في مواجهة الجيش الفرنسي دفاعاً عن استقلالية سوريا وديمقراطيتها وسلطتها التشريعية، كان ضابط فرنسي قد خرج من دائرة الأركان الفرنسية المقابلة يومها للمجلس وتوجه نحو حامية المجلس والمخفر الخاص وطلب من العناصر تأدية التحية للعلم الفرنسي عندما سيتم إنزاله عند الساعة السادسة وخمسين دقيقة من على مبنى الأركان، فرفضت الحامية ذلك، وأعلنت أنها لا تؤدي التحية إلا للعلم السوري،

سجل مجلس النواب مع نشوء الدولة السورية حضوراً منفرداً على أنه ممثل استقلال الدولة السورية

ذاك الأخضر بالنجمات الحمراء الثلاث الذي اتهم به نظامٌ مجرمُ حربٍ السوريين عندما رفعوه تعريفاً بهم _مناقضاً لهم عن العلم المرتفع على دبابات تقصفهم_ بأنه علم الانتداب الفرنسي، وكان مجلس النواب حينذاك عنوان صراع حول الإرادة الحرة للشعب السوري الممثل بنواب في البرلمان مقابل رغبة فرنسا التي بيدها السلطة العليا التي تسعى من خلالها لتعيين جهاز تنفيذي تابع بصورة شكلية للسلطة التشريعية لا أكثر. تمكن عناصر الحامية يومها من أن يغادروا البرلمان من دون تأدية التحية للعلم الفرنسي، ومن دون أن يتعرضوا للخطر، علماً أن المجلس كان قد فرغ من النواب، إلا أنهم رفضوا ذلك. سجل مجلس النواب مع نشوء الدولة السورية حضوراً منفرداً على أنه ممثل استقلال الدولة السورية، فمنذ نشوئه تحت مسمى المؤتمر السوري العام كان عنواناً لرفض الهيمنة الأجنبية، وأعلن نوابه عام ١٩٢٠ دستور المملكة العربية السورية، الدستور الأول للدولة السورية، والذي نص على الديمقراطية، وعلى أن مجلس النواب هو صاحب السلطة التشريعية، وحين رحل الملك عن سوريا باتجاه العراق بقي المجلس تعبيراً عن الدولة السورية، ولم تكن عودة الحياة البرلمانية بعد انقطاع وصل العشر سنوات إلا ثمرة نضال للحرية وثورة كبرى عام ١٩٢٥ ضمت أرجاء سوريا كلها وطالبت باستقلال سوريا، وعبرت عن تجلي ذلك الاستقلال بكتابة دستور سوري، وإجراء انتخابات ديمقراطية تفضي إلى عودة المجلس ممثلا السلطة التشريعية والشرعية لسوريا، سلطة الشعب، ورغم أن التمثيل كان منحصراً في دوائر ضيقة من الزعامات والأثرياء والعائلات، لكن وعياً كان منتشراً في صفوف السوريين عموماً أن استقلالهم ليس إلا برلمانا يستطيعون انتخاب نوابهم فيه، وفي سياق هذا الوعي وقف نواب المجلس في جلسته العشرين بعد تسلّم الحكومة الصلاحيات من السلطة الفرنسية في آخر شهر من عام ١٩٤٣ دقيقة صمت على أرواح الشهداء الذين ضحوا من أجل هذا اليوم، اليوم الذي يعين فيه نواب الشعب حكومتهم، وقد وصل هذا الإيمان ذروته عند الساعة السادسة والخمسين دقيقة من يوم ٢٩ أيار ذاك، بعد أن رفضت الحامية تأدية التحية للعلم الفرنسي، اقترب جندي فرنسي من الحامية ورمى قنبلة عليها، ثم بدأ تبادل إطلاق النار، وهاجمت القوات الفرنسية البرلمان من جهات أربع، وقُصِفت دمشق وانتشر الرصاص في المدينة كلها، واستمرت الحامية في المعركة حتى نفدت ذخيرتها بالكامل، فاتجه الجنود الفرنسيون وقاموا بقتل عناصر الحامية بالبلطات، ليكونوا أول شهداء يدافعون عن صرح السلطة التشريعية المعبر عن شخصية الدولة السورية الديمقراطية.

في الفترة نفسها كانت السلطة التنفيذية تتخذ منحى آخر يسعى لأن يكون أكثر نفوذا وتسلطا، بدأ الأمر فعليا عام ١٩٤٣، وبيد المنافحين عن الاستقلال والديمقراطية، وخاطب رئيس الوزراء المكلف سعد الله الجابري في بيان حكومته شكري القوتلي بالرئيس الزعيم، فإن كانت مهام الرئيس وطريقة اختياره تخضع لنص دستوريٍّ يحددها، فالزعيم فوق الدستور، إذ إنه لا يستمد شرعيته منه، ولا من البرلمان، الزعيم زعيم ببرلمان وبدونه، مما مهد للجابري نفسه في رئاسته للمجلس عام ١٩٤٥ أن يذكّر الحكومة الجديدة برئاسة فارس الخوري بواجبها تجاه الوطن والأمة و"الرئيس"، وبالتالي باتت الحكومة مسؤولة أمام الرئيس وليس أمام مجلس النواب، ولهذا الخطاب تأثيراته التي بدأت تتبدى في مراحل لاحقة، وقد كانت فترة الأربعينيات فترة مواجهة محتدمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن ملامح تلك المواجهة محاولة الحكومة عام ١٩٤٦ إصدار المرسوم رقم ٥٠ الذي يؤدي إلى تحديد الحريات ومراقبة الأحزاب والتضييق على حرية الصحافة والتعبير، ونجحت المعارضة في منعه، مسجلة نقطة للسلطة التشريعية، ونقطة أخرى في تدعيم تلك السلطة بعد أن تمكنت المعارضة والمظاهرات الشعبية من إقرار مبدأ الانتخاب المباشر عام ١٩٤٧، وأصبح يمكن للمواطنين انتخاب نوابهم بشكل مباشر دون مرحلة وسيطة، ولكن في انتخابات ١٩٤٧ بدأت السلطة التنفيذية تسجل نقاطاً ضد التشريعية، بدأت بتزوير انتخابات عام ١٩٤٧ من قبل الحكومة لضمان أكثرية برلمانية ساعدت لاحقاً في تعديل الدستور بما يسمح للرئيس شكري القوتلي بالتمديد مرة أخرى بشكل مخالف للنصوص الدستورية قبل التعديل، ومع تزايد الضغوط الشعبية، والوعي الحاضر حينذاك بعدم الرضوخ للسلطة التنفيذية وضرورة التمثيل الشعبي الحقيقي مترافقاً مع نتائج حرب النكبة عام ١٩٤٨ دفع شكري القوتلي بالجيش لفرض حظر التجول في حلب، الأمر الذي منح الجيش بوابة للتغول على الحياة المدنية، وبدأت مع العنصر المسلح الجديد في وسط القوى المدنية العزلاء الكفة تميل لصالح التنفيذية تدريجياً.

تضييق أفق السلطة التنفيذية لتقتصر على شخص حافظ الأسد الذي أعلنه المؤتمر القطري للبعث في عام ١٩٧٣ قائدا تفرضه الظروف التاريخية، وفي مؤتمر آخر عام ١٩٨٥ قائداً للأبد

ومع كل انقلاب كانت تسجل تلك السلطة نقاطاً إضافية، حتى جاء انقلاب ١٩٦٣ وأعلن من خلاله البعث حالة الطوارئ التي تجعل من صلاحيات الحاكم العرفي مطلقة، ورغم أن إعلان الحالة مخالف لقانون الطوارئ نفسه الذي ينص على أن يتم الإعلان عن الطوارئ بموافقة ثلثي المجلس، الأمر الذي لم يحصل، لحل المجلس حينذاك، فإن السلطة التنفيذية باتت هي صاحبة القرار النهائي في التشريع والقضاء والتنفيذ، وتم إعلان البعث قائدا للدولة والمجتمع، ولم تجر انتخابات حتى عام ١٩٧٣ بعد أن تمت "دسترة" سيطرة البعث على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في دستور عام ١٩٧٣، ثم تضييق أفق السلطة التنفيذية لتقتصر على شخص حافظ الأسد الذي أعلنه المؤتمر القطري للبعث في عام ١٩٧٣ قائدا تفرضه الظروف التاريخية، وفي مؤتمر آخر عام ١٩٨٥ قائداً للأبد، وباتت فيما بعد كل العلل والمصائب والفساد تسند للسلطة التشريعية الأساسية، ألا وهي المجتمع، فالشعب فاسد، والشعب لصوص، والشعب متخلفون، أما الرئيس فهو شخصية رائعة نزيهة، يسيء لها من حوله، الرئيس شخصية لا يفيها حقها حكم سوريا، وإنما يجب "أن تحكم العالم" كله، في تلك المرحلة رأت السلطة التنفيذية شديدة الضيق المشكلة في المجتمع القاصر عن الديمقراطية، وليس الرئيس المتنور الذي يتوق لتلك الديمقراطية التي يحرمه إياها الشعب كما عبر عن ذلك في مقابلته في بداية الثورة مع صحيفة وول ستريت، لا هيبة ومنذ زمن بعيد للسلطة التشريعية، وبضياع هيبتها ضاعت هيبة المجتمع، الذي بات يرى مرشحين للرئاسة برنامجها السياسي مبني على خدمة الأسد وتمجيد الأسد وشكر الله على نعمة الأسد.

 

 

ملحق:

تخليداً لأسماء شهداء البرلمان والديمقراطية نضع أسماءهم هنا:

سعيد قهوجي، محمد خليل البطار، محمد طيب شريك، سعد الدين الصفدي، شحادة إلياس، الأمير ياسين نسيب البقاعي، خليل جاد الله، زيد محمد ضبيعان، برهان باش إمام، عيد فلاح شحادة، مشهور المهايني، أحمد مصطفى سميد، محمود الجبيي، أحمد محمد قصار، حكمت تسبحجي، إبراهيم عبد السلام، إبراهيم فضة، جورج أحمر، محمد حسن هيكل، محمد عادل مدني، يحيى محمد اليافي، واصف إبراهيم هيتو، زهير خزنة كاتبي، عبد النبي برنيه، ممدوح تيسير الطرابلسي، طارق أحمد مدحت، محمد أحمد أومري، سليمان أبو سعد.