icon
التغطية الحية

ما الذي يجري؟ قراءة أولية عن "ردع العدوان" وتعقيداتها

2024.11.30 | 02:43 دمشق

آخر تحديث: 30.11.2024 | 13:27 دمشق

78578
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- شنت فصائل المعارضة السورية هجوماً عسكرياً واسعاً باسم "ردع العدوان" على ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، مما أدى إلى انهيار سريع لقوات النظام واستعادة مساحات كبيرة خلال يومين، مع تكهنات حول توافقات دولية وتأثيرات على الخريطة العسكرية.
- تثير العملية تساؤلات حول الموقفين التركي والروسي، حيث تسعى أنقرة لتحريك خطوط خفض التصعيد دون عمليات واسعة، بينما تراقب موسكو التطورات بعناية لتحديد مدى انخراطها.
- أظهرت الفصائل تنظيماً احترافياً، مما أدى إلى انهيار معنوي لقوات النظام والسيطرة على مناطق استراتيجية، بينما تواجه هيئة تحرير الشام تحديات في تغيير صورتها وتحقيق تحولات تنظيمية.

بدأت فصائل معارضة سورية منضوية في غرفة عمليات "إدارة العمليات العسكرية" هجوماً عسكرياً واسعا أُطلق عليه مسمّى "ردع العدوان"، مستهدفة ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي. لم يكن الهجوم مفاجئا، ذلك أن الفصائل دأبت على تكرار نيتها بشنّه خلال الشهرين الأخيرين، كان صادما إقدامها على فعله مخالفة بذلك جلّ التوقعات. تمثلت المفاجأة الأخرى بانهيار قوات النظام بشكل سريع وتباطؤ الطائرات الروسية عن المشاركة الفاعلة حتى الآن وتراجع ملحوظ في انخراط الميليشيات الإيرانية والفصائل اللبنانية والعراقية.

التنظيم المنضبط للقوات المهاجمة ووجود خلايا نائمة مكّنها من دخول أحياء في مدينة حلب بشكل جعل المدينة ساقطة ناريا إلى حد بعيد. ومع أن الأمور لم تتضح بعد، فإن ما جرى يعد إنجازا عسكريا فريدا من نوعه، فخلال يومين نجحت إدارة العمليات العسكرية في استعادة مساحات جغرافية ومدن استغرقت القوات الروسية والإيرانية نحو عام ونصف العام لاحتلالها.

راجت تكهنات وتفسيرات كثيرة لما جرى وتعددت الآراء في توصيفه ما بين الحقيقة والخيال مع حضور قوي للسيناريوهات التآمرية لجهة وجود توافقات دولية عن استلام أو تسليم، أو مسرحيات، وغيرها من المسائل، وهو أمر مفهوم ذلك أن العملية تمثل أول تغيّر وتبدّل في الخرائط العسكرية التي رسمت في اتفاق موسكو 2020 ونجم عنها وقف لإطلاق النار حرصت القوى الدولية جميعها على استدامته والدعوة إلى الالتزام به سرا وعلانية .

من المبكر لأوانه تقديم تحليل موضوعي لما جرى حيث تغيب المعلومة الصحيحة عن غالبية السوريين نظاما ومعارضة وبين بين، لكن المراقب للمشهد عن كثب يهتم بأسئلة محورية عن الموقفين التركي والروسي بالدرجة الأولى، وإمكانية الاحتفاظ بالمناطق المسيطر عليها وتجنب تكرار تجارب الماضي، وهو ما نروم إثارة بعض النقاط بشأنه.

شعرة معاوية بين موسكو وأنقرة

استثمرت أنقرة كثيرا بمسار أستانا بوصفه الناظم لعلاقتها مع موسكو وذهبت في الحفاظ عليه حدا بعيدا تجاهلت فيه نقض القيادة الروسية جميع تفاهمات مناطق خفض التصعيد الأربعة بما فيها قضم مساحات كبيرة من منطقة خفض التصعيد الرابعة التي كانت تمتد من مورك في ريف حماة إلى أقصى الشمال السوري. أكثر من ذلك، غضت أنقرة الطرف رغم انزعاجها الشديد عن الخروقات المختلفة للطيران الروسي وحرصه المستمر على قصف مناطق الشمال ومنع المدنيين من الاستقرار فيها بغية خلق مشاكل تؤدي إلى هجرة دائمة، هجرة ضاقت حكومة العدالة والتنمية ذرعا بها وبتبعاتها الداخلية وخاصة فيما يتعلق بتغير مزاج الناخب والأزمة الاقتصادية.

الحرص على عدم إعلان فشل هذا المسار المتعثر بجلساته الـ22 دفع صانع القرار التركي إلى التوجه المباشر نحو الأسد وحثه على بدء عملية تطبيع تدريجية تبدأ بفتح مسار سياسي لحلحلة الأزمة السورية دون حلها وتفضي في نهايتها إلى انسحاب القوات التركية من سوريا. لكن تعنت النظام ومواربة روسيا وإصرارها على استفزازاتها الميدانية وتعويل قوى دولية أخرى مثل أميركا، والدول العربية، وإسرائيل على تحديد معالم الحل في سوريا أدى إلى تراجع الحساسية التركية، عند بعض الأصوات على الأقل، لاحتمالية حصول سيناريو انفجاري يقلب المعادلات العسكرية الثابتة.

قد تكون أنقرة مهتمة بعملية تحريك ضمن خطوط خفض التصعيد الرابعة لكن ليس من الضروري أن تكون مهتمة بعمليات تحريرية على غرار ما جرى سابقا، عمليات قد تكون نتائجها كارثية في حال فشلها إذ قد ينجم عنها موجات جديدة من اللاجئين، خاصة إذا ما قررت موسكو تكرار سيناريو انتقامي كما جرى بعد إسقاط طائرتها عام 2015. وعليه، يمكن القول بحذر إن أنقرة فرحة بما يجري لجهة الانهيار الكبير في قوات النظام واستعادة مناطق قد تعيد مئات الآلاف من اللاجئين فيما لو بقيت تحت سيطرة المعارضة السورية وتمنع الانفجار السكاني الذي يحصل في إدلب مع تكدس القادمين إليها وتراجع الدعم الدولي، في الجانب الإنساني خاصة، وتلبية حاجات الناس هناك.

لكن أنقرة ذاتها تخشى انتقاما روسيا وتصعيدا غير محسوب في دعم النظام، كما تخشى انتقاما غير منضبط من إيران، الدب المخدوش داخليا وخارجيا، وخصوصاً مع اقتراب المعارضة من السيطرة على المدينة التي استثمرت فيها طهران كثيرا، مذهبيا واجتماعيا. باختصار، لن تمارس أنقرة ضغوطا على فصائل المعارضة وستحرص على تفهم التقدم الحاصل من دون تبريره أو اتخاذ مواقف حماسية تجاهه طالما حافظت روسيا على موقفها الحالي. والسؤال الذي يطرح هنا: ما هو الموقف الروسي وكيف يمكن أن يتطور؟

لن تمانع موسكو بعملية محدودة تضغط على النظام الذي أرهقها بتقلباته الطفولية ولعبه على وتر التناقضات العديدة بينها وبين طهران في سوريا ووضع العراقيل ضد أي مقترح سياسي بما في ذلك اللجنة الدستورية التي اخترعتها موسكو بديلا عن مسارات الحل الدولية

بداية، تسود تصورات وأراء عن غياب روسيا عن معارك الميدان الحالية وهذا غير دقيق، فالمشاركة حاضرة لكن القدرات لم تعد كما الماضي. تشير متابعتنا ومعلوماتنا إلى أن موسكو سحبت منذ 2022 أكثر من 1500 جندي وجميع الخبراء الميدانيين ومنظومات دفاع جوي مثل "إس 300" وعددا من منظومات بانتسير المخصصة للدفاع الجوي ضد المسيرات، وأبقت روسيا في قاعدة حميميم على 3 طائرات اعتراض جوي من طراز ميغ و4 – 6 طائرات قاذفات جوية من طراز سوخوي، بحسب ما كشفته صور أقمار صناعية التقطت صورا حديثة لقاعدة حميميم، بينما كان عدد الطائرات الروسية عام 2016 أكثر من 20 طائرة. روسيا تستخدم طائراتها الأربعة على مدار الساعة، لكن مساحة المعركة وفقدان الضباط الروس الخبراء والخلل الكبير في صفوف قوات النظام، لا تترك مجالاً ليكون الطيران الروسي أكثر تأثيراً مما يحدث. يضاف إلى ما سبق حسابات روسية دقيقة من سلاح المسيرات الجديد الذي باتت فصائل معارضة تمتلكه وتستخدمه بقوة واحترافية في الميدان حيث تتهم موسكو دولا مثل أوكرانيا بتدريب عناصر سوريين على استخدامها لاستهداف قاعدة حميميم، وعليه تفضل موسكو جمع معلومات ومعطيات عن القدرات الهجومية للفصائل المشاركة لحساب تبعات المشاركة وإمكانية زيادتها.

لن تمانع موسكو بالتأكيد بعملية محدودة تضغط على النظام الذي أرهقها بتقلباته الطفولية ولعبه على وتر التناقضات العديدة بينها وبين طهران في سوريا ووضع العراقيل ضد أي مقترح سياسي بما في ذلك اللجنة الدستورية التي اخترعتها موسكو بديلا عن مسارات الحل الدولية. لكن القادة الروس ورغم انشغالهم الكبير في أوكرانيا ينظرون إلى وجودهم في سوريا من منظور استراتيجي يتجاوز النظام السوري إلى رسم محددات دورها في النظام الدولي ولن يسمحوا بتبدل الموازين أو التخلي عن النظام كما يراهن عدد من المعارضين ضمن منصة موسكو وخارجها. باختصار، سوف يتحدد الانخراط الروسي وفقا لمحددات أههما؛ التقدم الميداني للمعارضة وصمود النظام، ورد الفعل الإيراني، واحتمالية حصول عمليات مفاجئة في الجنوب، وأخيرا إمكانية الحماس التركي للعملية الذي يمثل شعرة معاوية في علاقات البلدين.

انهيار معنوي للنظام يقابله تنظيم احترافي لخصومه

تشير المعطيات الحسابية إلى أن فصائل المعارضة سيطرت في يوم واحد على مساحة جغرافية تعادل ربع مساحة لبنان على أبعد تقدير. يدلل ذلك على انهيار تنظيمي لقوات النظام يمكن التحدث عنه ببعض التفاصيل قبل الخوض في احترافية خصومه.

مصادر عسكرية من غرفة عمليات الفصائل عرضت لنا في تلفزيون سوريا محادثات ضباط النظام بعد الاستيلاء على هواتفهم المحمولة، وتتطابق المحادثات بين الضباط بأن الخطوط الدفاعية منهارة، والفصائل لا تتوقف عن الهجوم على مدار الساعة، وكان جميع الضباط على يقين تام بأن روسيا قد خذلتهم وأن إيران وحزب الله لن يتدخلوا في المعركة بسبب الضربات التي تلقوها وبسبب خذلان النظام السوري لهم في معارك لبنان الأخيرة، وأن حلب ليست من أولوياتهم حالياً، وأن أردوغان طلب هذه المعركة ليرغم الأسد على التطبيع والجلوس معه. هذه القناعات تركت ضباط النظام في حالة معنوية سيئة للغاية. على مستوى الميدان، لم يستقدم النظام السوري تعزيزات إلى حلب في الأيام الماضية رغم أن المعركة كانت علنية والتجهيز كان واضحاً للجميع أنه أكبر من أن يكون عملية محدودة، كما أن الحديث عن وصول قوات النخبة لدى النظام بقيادة سهيل الحسن الملقب بالنمر عير صحيحة ونشرها إعلاميون مقربون من النظام لرفع المعنويات فقط.

والملاحظ في هذه المعركة أن مروحيات النظام السوري لم تشارك على الإطلاق، حيث جرت العادة أن تنطلق أسراب مروحيات من مطاري حماة والنيرب العسكريين، في حين اقتصرت المشاركة الجوية للنظام على طائرات السوخوي. يمكن تفسير ذلك بأن غرفة العمليات هددت النظام بتدمير جميع الطائرات والمروحيات عبر المسيرات التي يصل مداها إلى مدينة حمص، كما نشرت حسابات مقربة للفصائل صور مقاتلين مجهزين بصواريخ دفاع جوي محمولة على الكتف.

يبدو أن النظام السوري لا يريد الزج بقواته في معركة يبدو أنها خاسرة وتم التخطيط لها بدقة غير مسبوقة، وربما يكون النظام مقتنعا بنظرية أنه بات هدفاً لإضعافه، وبالتالي ستكون أولويته الحفاظ على قواته في وسط سوريا والعاصمة.

مقابل الانهيار التنظيمي يلاحظ جليا التحضير الاحترافي لخصومه من خلال المعسكرات التدريبية والمناورات، وكذلك التصنيع العسكري الذي نتج عنه صواريخ مجنحة وطائرات مسيرة بمدى كبير وطائرات انتحارية FPV مثل المستخدمة في الحرب الأوكرانية. اعتماد تكتيك عدم التوقف على مدار الساعة، لكن بانضباط شديد، حيث يكون لكل مجموعة قتالية محور محدد لا تتجاوزه إلا بأوامر من غرفة العلميات التي تراقب من طائرات الاستطلاع كامل أرض المعركة، ولديها طائرات استطلاع برؤية ليلية. يضاف إلى ذلك "سرايا" الحراري وهي فرقٌ من مجموعات النخبة المجهزة بأحدث الأسلحة القتالية للمشاة والمجهزة بمناظير رؤية ليلية وكواتم صوت. هذه المجموعات كانت تحرز تقدماً كبيراً في الليل.

المفاجئ أيضا أن الفصائل أرسلت خلايا نائمة إلى داخل مدينة حلب وشنت أول عملية باقتحام اجتماع الخلية الأمنية في حلب الذي كان يحضره جميع قادة الفروع الأمنية وضباط الجيش، وقتل في العملية قائد إيراني كبير في الحرس الثوري وعدد من الضباط السوريين.  تشير المعلومات إلى أن سقوط أحياء حلب الغربية بهذه السهولة يعود أساسا إلى نشاطها الحاسم والمفاجئ.

ما ينطبق على حلب ينطبق على ريف إدلب الشرقي حيث تمت إعادة السيطرة على سراقب الاستراتيجية التي تشرف على عقدة الطرق M4 وM5 الأمر الذي يفتح الطريق لاستعادة مناطق خفض التصعيد السابقة، وتحديداً معرة النعمان، وخان شيخون وصولا إلى مورك في ريف حماة الشمالي، وفتح معركة صعبة ستكون مباشرة ضد إيران وفصائلها في ريف حلب الجنوبي.

بين تحولات الهيئة والمخاوف من ماضيها ومستقبلها

ليس سراً أن هيئة تحرير الشام تمثل العمود الفقري لما بات يعرف سورياً بـ "إدارة العمليات العسكرية" والتي استحوذت على إعجاب السوريين المعارضين بمن فيهم ألد خصوم الهيئة لناحية عملها التنظيمي المحكم على مختلف المستويات والخطاب المقدم من قبل "إدارة الشؤون السياسية"، وهو خطاب مفاجئ لجميع المراقبين في لغته ومضمونه، وجديدٌ على الهيئة نفسها.

مثلت هيئة تحرير الشام نموذجا مغريا للباحثين في حقل تحولات الحركات الإسلامية المسلحة، فقد أنشأت الهيئة بعد 12 عاما على تأسيس بذرتها الأولى "جبهة النصرة" مطلع عام 2012، نموذجاً شبه دولتي على مستوى البنى والمؤسسات في إدلب وحرصت لا سيما في الأعوام الأخيرة على إبراز تحولات هامة سلوكية وتنظيمية للانفضاض عن الجهادية العالمية وإعادة تعريف نفسها كحركة سياسية إسلامية سورية داخليا، وسعت كثيرا لإزالة التصنيف الدولي من قائمة الإرهاب خارجيا دون أن تنجح في ذلك.

واجهت الهيئة تحديات عدة ذلك أن نموذجها التنظيمي الحالي بني على سحق الفصائل المسلحة عسكريا وقمع سياسي وتضييق على الحريات الفردية مع قبضة سلطوية وفّرت استقرارا أمنيا مريحا وسجونا مليئة بالسجناء ما عرضها لانتفاضة شعبية طويلة.

استثمرت الهيئة في الإعداد العسكري والوعد بحماية المناطق المحررة وتغيير الموازين عندما تحين الفرصة لكن هذا الاستثمار لم يكن مقنعا لشرائح مجتمعية ما أجبرها مؤخرا على التنازل بشكل كبير بخلع آخر أثوابها الجهادية والتخلص من كل العناصر القديمة الأكثر تشددا وخاصة الأجنبية، ما أقنع الكثيرين بإمكانية حصول تغيير محتمل.

لا يعرف سكان حلب عن الهيئة سوى نسختها الأولى النصرة، وهي نسخة غير مشجعة، ولديهم كما شرائح كبيرة من السوريين تحفظات كبيرة على مسألة اقتحام المعارضة العسكرية للمدن، حيث جرت عليهم ويلات كبيرة. باختصار، تمثل التطورات الحالية فرصة غير مسبوقة للهيئة لتقيّم تجاربها السابقة وترسّخ تحولات سلوكية وتنظيمية وخطابية لتتماهى مع مفردات وأهداف الثورة السورية وتأسيس نموذج جديد مغاير لنماذجها السابقة.