ما الذي أصاب الانتفاضة اللبنانية؟

2019.12.07 | 17:19 دمشق

images_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

اصطدمت الانتفاضة اللبنانية بجدار تأليف حكومة تكنوقراطية، من شخصيات مستقلة وكفوءة، على أن تكون "حكومة انتقالية" بصلاحيات استثنائية. ومطلب الحكومة التكنوقراطية هذا، يفصح أيضاً عن تصميم أهل الانتفاضة على إخراج الأحزاب الأساسية من السلطة. وهذا بالضبط ما لن يتطوع له أي طرف من أطراف السلطة، وخصوصاً حزب الله، الذي أعلن نائبه محمد رعد أن ما يواجهه حزبه يوازي بخطورته حرب العام 2006. واضعاً مطالب الثورة بسوية الخطر الإسرائيلي!

اصطدمت الانتفاضة اللبنانية أيضاً باستعداد "الثنائي الشيعي" (حركة أمل وحزب الله) لممارسة العنف تحت شعار مذهبي، وبقابلية هذا الثنائي لفرض حرب أهلية ولو من طرف واحد، بما يطيح بمدنية وسلمية هذه الانتفاضة. والتلويح بالمصاب السوري

اصطدمت الانتفاضة أيضاً بالخوف الشامل الذي أصاب اللبنانيين من جراء تسارع الانهيار المالي وتفاقم الأزمة المعيشية والشلل الاقتصادي

وبمشاهد القتل العراقية مؤثرة على نحو بالغ في نفوس اللبنانيين، عدا عن كوابيس ذاكرة الحرب الأهلية..

اصطدمت الانتفاضة أيضاً بالخوف الشامل الذي أصاب اللبنانيين من جراء تسارع الانهيار المالي وتفاقم الأزمة المعيشية والشلل الاقتصادي، لتنقلب أولوية المواطنين من مطالب "الإصلاح" إلى مطلب "الإنقاذ"، ومن التظاهر والاعتصام إلى ملاحقة الرغيف وضرورات العيش اليومي.

يضاف إلى كل هذا، أن الانتفاضة وعلى الرغم من إنجازها الباهر في تظهير "كتلة وطنية" جامعة وعابرة للطوائف والمناطق، وفي التعبير عن توق عمومي وشامل إلى بناء دولة العدالة الاجتماعية، إلا أنها اصطدمت كذلك بكتل طائفية لا تزال متماسكة، أو هي استطاعت بعد الصدمة الثورية الأولى أن تعيد تعبئة نفسها، والتمترس خلف زعاماتها أو أحزابها. ويمكن استشفاف تحول الديناميات السياسية بمراقبة التحول "التلفزيوني" والإعلامي. إذ عاودت وجوه السلطة ورموزها وأبواقها تحتل الشاشات، وتطوعت المحطات التلفزيونية على ما يبدو لهذه المهمة، كونها مؤسسات ترتبط (سياسياً وتمويلياً) بشبكة المصالح المتصلة بتحالفات السلطة ورجال الأعمال والمصارف..

وفق هذه الوقائع، دخلت الانتفاضة اللبنانية في حال من الخفوت المقلق والتعب العمومي، وباتت مقتصرة هذه الأيام على نواة من الناشطين "الملتزمين"، وشبه المحترفين، الذين يسعون يومياً إلى ابتكار تحركات احتجاجية موضعية ومتفرقة صوناً لبقاء جذوة الثورة مشتعلة وحاضرة. وهؤلاء أصلاً، قبل الانتفاضة العامة، كانوا دوماً حاضرين في اليوميات اللبنانية، كهامش اعتراضي، خصوصاً منذ الحراك المدني عام 2015.. حين بدأت تأتلف مجموعات من الناشطين البيئيين، وجمعيات نسوية، وناشطين حقوقيين، وشلل من اليسار الجديد، وحركات طلابية وشبابية، ونقابيين مستقلين، ومثقفين، إلخ. وهؤلاء بوصفهم "مجتمعاً مدنياً" كانوا دوماً قادرين على حشد مئاتهم، وأحياناً آلافهم. لكن من غير القدرة على فرض "أجندتهم" على الواقع السياسي وتوازناته، ولا على المقارعة الانتخابية التمثيلية. فظلت السلطة قائمة وتجدد نفسها من دون وجود "معارضة".

لحظة 17 تشرين الأول (أكتوبر)، هي ببساطة لحظة تكوّن رأي عام جارف ومنحاز إلى تحالف "المجتمع المدني" الذي أشرنا إليه. فقد انتبه عموم اللبنانيين أن المنظومة السياسية التي تقودهم عبر شبكة المحسوبيات والزبائنية والنفعية والاستزلام الحزبي أو الطائفي، ما عادت قادرة على تأمين المنافع والمصالح، وأدى نظام الفساد والإفساد بهم إلى إفلاسهم وإفلاس دولتهم. وهذا ما دفعهم إلى الخروج منه وعليه، منتفضين على سلطة ليس بمستطاعها أن تمنحهم ولو كذباً أي أمل بالغد.

بدت المطالب الكبرى للانتفاضة وتنوعها وشمولها لطموحات شرائح واسعة ومتنوعة من اللبنانيين، وكأنها وثبة سياسية واجتماعية وثقافية، قد تشكل انتقالاً تاريخياً للكيان اللبناني. لكن اصطدام الثورة الشعبية بالأمر الواقع، أي باستعصاء السلطة على تقديم أي تنازل فعلي، وباحتمال "الثورة المضادة" العنفية، ثم مواجهة الكارثة المالية والاقتصادية والمعيشية الداهمة.. أفقدها بدورها القدرة على تقديم ذاك "الأمل بالغد"، وتلبستها أطياف الفوضى والمخاطر واليأس واللاجدوى، وأفضى ذلك إلى فقدانها للزخم الشعبي، خصوصاً وأن المعضلة الأساسية التي تواجهها الثورة هي

تعاني الانتفاضة اللبنانية من حال المراوحة والخفوت وتضاؤل القدرة على التعبئة والحشد

عدم قابلية سقوط "النظام" في شارع سلمي، كما لاقابلية جمهور الثورة على اللجوء إلى أي نوع من العنف ولو رمزياً (ولا حتى قنبلة مولوتوف واحدة خلال خمسين يوماً). بل إن أهل الثورة تخلوا طوعياً حتى عن العنف اللفظي (الشتيمة)، كما أن سلاح قطع الطرق، كأسلوب فعال ومزعج للسلطة، بات ذريعة لحزب الله مثلاً كي يهدد بفتنة مذهبية ومناطقية.. ما جعل الناشطين مترددين جداً في العودة إلى استعماله.

هكذا، تعاني الانتفاضة اللبنانية من حال المراوحة والخفوت وتضاؤل القدرة على التعبئة والحشد. وخلال الأيام القليلة الماضية، سبّب إحجام الناس على الانخراط الواسع بفاعليات الشارع والساحات، وضعف تلبية الدعوات إلى النشاطات العامة، في نشوب سجال بين المجموعات الناشطة حول السبل والمبادرات الواجب اعتمادها. وهي منقسمة مبدئياً بين تيار يصرّ على الطابع السلمي والمدني، وتيار آخر يميل إلى اعتماد أنماط من "الشغب" والممارسات الثورية الصادمة، من نوع احتلال المرافق العامة أو مهاجمة المصارف أو العودة إلى قطع الطرق على نطاق أوسع وشامل، ولو أدى ذلك إلى صدامات مع القوى الأمنية.

مقابل هذا السجال، يجب الرهان على "الذكاء الجمعي" الذي يحرك المواطنين اللبنانيين إقداماً أو إحجاماً. فهذا "الذكاء" هو الذي فاجأ الجميع في 17 تشرين الأول، وفي محطات عديدة ولحظات كثيرة. وهو اليوم يوحي للبنانيين أن "ينتظروا" ما ستؤول إليه أزمة تشكيل الحكومة، وما سينتج عنها من نزاعات وصدامات بين أقطاب السلطة. كما أن اللبنانيين ينتظرون جلاء الصورة الدولية والإقليمية (من إيران والعراق.. إلى مؤتمر الدول الداعمة للبنان في باريس 11 تشرين الثاني)، وكيف سيكون رد فعل حزب الله وحلفائه.. إضافة إلى المزيد من انكشاف فشل السلطة في معالجة الكارثة المالية. حينها لن يحتاج اللبنانيون إلى دعوة أو نداء.

الثورة اللبنانية وبغض النظر عن مشهد الساحات الباهت اليوم.. هي الاقتراح السياسي الوحيد بين يدي اللبنانيين. هي قدرهم لزمن مديد، مستقبلهم كله.