مايكل وايز.. عن دور الأسد في صناعة داعش

2020.03.02 | 23:02 دمشق

1569853669.jpg
+A
حجم الخط
-A

"وحدَهُ الأسد استطاع أنْ يوحّد جوقةً عالمية شديدة التنوّع تضمّ: القوات الأميركية، وأبناء العراق، وضبّاطاً ودبلوماسيّين سوريّين سابقين، وشريحة هائلة من المعارضة، وحكومة المالكي؛ حول مسؤوليته الرسمية عن تأسيس تنظيم الزرقاوي. إن ولادة داعش في سوريا والعراق لا يمكن فهمُها دون دراسة التعاون طويل الأمد بين دمشق والقاعدة".

في كتابه "داعش: في قلب جيش الإرهاب" (2015)، يتتبع الباحث الأميركي مايكل وايز جذور هذا التنظيم، بدءاً من تأسيس قاعدة الجهاد في أفغانستان، مروراً بالحرب العراقية وتأسيس تنظيم القاعدة ثم "دولة العراق الإسلامية"، وصولاً إلى تنظيم "الدولة" وإعلان الخلافة 2014، ثم التحالف الدولي ضدّه.

قام وايز بجمع شهاداتٍ من عشرات العسكريين والأمنيّين والسياسيّين الأميركيين والعراقيين والسوريين، ليقدّم صورة معقولة لهذا التنظيم، بعيداً عن المبالغة والتضخيم. وفي الفصل المسمّى "وكالة الأسد"، يعرض لنا تفاصيل التعاون الوثيق بين نظام الأسد والجهاديين، ودور الأسد في صناعة القاعدة ثم داعش. سألخّص أهمّ النقاط الواردة في هذا الفصل، وأسردها على لسان الكاتب:

"لقد ترافقتْ طفرةُ داعش في العراق مع استيلائها على أراض واسعة في سوريا، وهذه حقيقةٌ حاول نظامُ الأسد استغلالها ليدّعي أنه ضحيّة للإرهاب العالمي. هذا الادّعاء السخيف يثبُت بُطلانه عند إماطة اللثام عن أدّلة قطعيّة ومُفحمة حول دور سوريا في مساعدة القاعدة قبل الانسحاب الأميركي.

ثمة تحالفٌ استراتيجي خفيّ بين نظام الأسد وحشدٍ من الجماعات الإسلامية، لحاجتهما لبعض، ولمصلحة مُعلَنة في معاداة إسرائيل وأميركا. ترى دمشق في الإسلاميين الوسيلة الوحيدة الممكنة لتعزيز موقعها الإقليمي، ولكسب نفوذ في دول الجوار، وجلب الاستقرار المحلي لسوريا نفسها. وبالرغم من وجود قانون يحكم بالإعدام على المنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمين، كانت دمشق تحتضنُ قادة حماس، وأكبر حلفائها في المنطقة هما حزب الله والحرس الثوري.

قُبيل إسقاط الولايات المتحدة لصدّام، كان الأسد يُسهّل حركة المقاتلين الأجانب إلى العراق من أجل زعزعة استقراره. كانت هناك حافلاتٌ تنقل المقاتلين من أمام فرع المخابرات في دمشق إلى الحدود العراقية، حيث توجد معسكرات تدريب لهم. تشيرُ "سجلّات سنجار" بأن المقاتلين الأجانب دخلوا إلى العراق من سوريا عبر معبر البوكمال-القائم، والمئات منهم تسلّلوا قبيل الاجتياح الأميركي، مما أدّى إلى غلاء الأسعار والإيجارات في المناطق الحدودية. ثم توالت موجاتُ المجاهدين واحدةً تلو الأخرى. وخصوصاً بعد انتفاضة الأرز التي أخرجت الجيش السوري من لبنان، إثرَ اغتيال الحريري الذي أثبتَ التحقيقُ مسؤولية عناصر من حزب الله (الحليف الإرهابي للأسد) عنه.

كان الأسد ينكر على الدوام أنه منسّقُ الأنشطة الإرهابية في العراق، وكان يدعي أنه على تعاون مُفتَرض مع واشنطن في الحرب على الإرهاب. رغم ذلك، فإن الكثير من ضبّاطه ودبلوماسيّيه المنشقّين يُقرّون بمسؤوليته الكاملة عن القاعدة في العراق، ولسببين منفصلين: أولاً كان الديكتاتور يأملُ في أنْ يكون ذلك تهديداً جادّاً لإدارة بوش، إذ فهمَ الأسدُ أن استراتيجية بوش في العراق تهدف إلى إنهاء حكم استبدادي أقلّوي، فخاف أن يكون هو التالي، ولذلك بدأ بالعمل مع الجهاديين، وفعلَ كلَّ ما بوسعه لكي يقنع الأميركان: "لا تأتوا إليّ، وإلّا سأرسل إليكم مزيداً من الإرهابيين ليقتلوا جنودكم هناك". أما السبب الثاني فهو رغبة الأسد في صرف أنظار الإسلاميين عن نظامه عبرَ إشغالهم في البلد المجاور.

بينما يرى خبراء آخرون أنّ غاية الأسد هي "لفت الانتباه"، وهذا يتعلّق بتصوُّر النظام لدوره ومكانته، فهو يؤمن أنّ استمراريته تكمُن في أنْ يُنظَر إليه كقوّة إقليمية لا غنىً عنها، وهكذا قامتْ سياستُه تجاه الغرب. كان حلمُ الأسد أنْ تتّصل به الولايات المتحدة وتطلب منه المساعدة في مكافحة الإرهاب. بالنسبة إلى الأسد فإن ظهوره بمظهر الـمُحاور لأميركا لـهُـوَ أمرٌ يسلّط الأضواء عليه، ويجعله يدّعي أنه عنصرٌ محوريّ في مشروع السلام العربي الإسرائيلي، وقوّة حقيقية في مكافحة الإرهاب. فالأسد يخلق المشكلات، ثم يقدّم عرضاً -بكلّ رحابة صدر- لحلّها.

وفي هذا السياق، نأخذ الظاهرة المثيرة للجدل "أبو القعقاع السوري"، وهو إمام مسجد في إحدى الأحياء الشعبية في حلب، كان يدعو إلى الجهاد في العراق جهاراً ونهاراً، ويطالب النظام بالتحوّل إلى دولة إسلامية. كان يستقطب الشبّان ويدربهم في معسكر قتالي على الأراضي السورية ثم يرسلهم إلى العراق. يعلّق محمّد حبش على ذلك: "لو قام إمامُ مسجدٍ آخرَ بأي فعلٍ من تلك الأفعال، لقضى بقية عمره -مع عائلته وأقربائه وجميع مَن ارتادوا مسجده- في السجن". يبدو أنّ أبا القعقاع كان عميلاً مشتركا للقاعدة والأسد، فهو يرسلُ المجاهدين بيَدٍ ويسلّمُ أسماءَهم للنظام باليَد الأخرى، ليقدّمها النظامُ كعرضٍ أو صفقة للأمريكان. لم يكن للنظام أي مشكلة مع أبي القعقاع، طالما أنه يرسل الجهاديين إلى الخارج ويصرف أنظارهم عنه.

الظاهرة الثانية هي "شاكر العبسي" مؤسّس تنظيم "فتح الشام". سبقَ للعبسي أن خطّط مع الزرقاوي -في دمشق- لاختطاف وذبح عاملي إغاثة أمريكيّين عام 2002، ثم رفضَ النظامُ تسليمَ العبسي إلى السلطات الأردنية، ليسمحَ له بعد ذلك بإنشاء معسكر لتدريب مقاتلي القاعدة على الأراضي السورية قرب الحدود العراقية. ثم ظهرَ العبسي في مخيّم نهر البارد 2007 في لبنان، مع عشرات الجهاديين الذين أرسلهم إلى العراق، ما يشير إلى مسؤولية النظام الكاملة عن أحداث نهر البارد وتنظيم "فتح الشام".

الظاهرة الثالثة هو "أبو غادية"، وهو أحد رجالات آصف شوكت، عيّنه الزرقاوي كمسؤول عن العمليات اللوجستية في تنظيم القاعدة 2004، فهو المسؤول عن انتقال المجاهدين عبر الحدود السورية العراقية. وحسب وثائق ويكيليكس: "كان بشار الأسد مدركاً تماماً أنّ صهره على معرفة عميقة بنشاطات مسؤول العمليات اللوجستية في القاعدة"، فقد كان "أبو غادية" من المنخرطين في أعمال العائلة بمثابة ذراع يُمنى لهم. خلال عام 2008، قامت الولايات المتحدة بعمليات مضنية من أجل تصفية "أبي غادية"، حتى طلبَ بيتريوس [مدير الـ CIA] من إدارة بوش أن تسمح لهم بالاتصال مع الأسد لعلّه يسلّمهم "أبا غادية" عبرَ صفقةٍ ما، مثلما سبقَ لهُ أنْ سلَّمهم "سبعاوي التكريتي" الأخ غير الشقيق لصدّام حسين. لكنّ الطلبَ قُوبلَ بالرفض من البيت الأبيض. وفي أكتوبر 2008 قامت وحدة عسكرية أميركية بعملية توغّل في منطقة البوكمال، وقتلتْ "أبا غادية" بطريقة مشابهة لمقتل ابن لادن. ونقلاً عن دبلوماسيين أمريكيين حضروا زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند لبشار الأسد في دمشق؛ فإنّ الأسد لم يكن منزعجاً من اختراق القوات الأميركية لسيادة بلاده وإجراء عملية اغتيالٍ عليها، بل لأنهم لم يطلبوا منه أنْ يلعب دوراً في تلك العملية.

لا أحد يستطيع شرح دوافع تعاون الأسد مع التنظيمات الجهاديّة أكثرَ من علي مملوك، وفي لقاء جمع بين منسّق مكافحة الإرهاب في الخارجية الأمريكية (دانييل بنجامين) ونائب وزير الخارجية السوري (فيصل المقداد) في دمشق؛ فاجأ علي مملوك الوفد الأميركي بحضوره، وباعترافه الصريح والمثير حول علاقة نظامه بالجهاديين: "من حيث المبدأ، نحن لا نهاجمهم أو نقتل أحداً منهم. بل في الحقيقة نحن نرسّخ أنفسَنا بواسطتهم، وفي اللحظة المناسبة فقط سوف نتحرّك... حالياً، سوف نواصل فعلَ ذلك، لكنْ في حال بدأنا بالتعاون معكم، فسوف يؤدي ذلك إلى نتائج أفضل، وسوف نستطيع حماية مصالحكم بشكلٍ أفضل". في نظر الدبلوماسيين الأمريكيين فإنّ نظام الأسد عبارة عن عائلة مافيا، وقد قدَّم مملوك للبيت الأبيض عرضاً لا يستطيعون رفضّه. [في محاكاة للجملة الشهيرة من فيلم العرّاب]."

أما في فصل "الثورة المغدورة"، فيتحدّث وايز عن إطلاق الأسد للجهاديين في العفو الشهير عام 2011، بعدما استخدمهم لثماني سنوات في العراق. وعن دورهم في طعن الثورة من الظهر، وإنقاذ النظام من السقوط الوشيك، حسب رأيه.