بعد مرور شهرين تقريباً على قطع رأس صموئيل باتيه، ذلك المدرس الذي عرض على تلاميذه رسوماً كاريكاتورية عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كشفت الحكومة الفرنسية على مشروع قانون يهدف إلى تضييق الخناق على "الإسلام المتطرف"، طبعاً هذا هو الهدف الخفي لمشروع القانون الذي طرح في التاسع من كانون الأول. فقد وعد الرئيس إيمانويل ماكرون بقانون يسعى لمحاربة "الانفصالية الإسلامية"، ولكن ليستبق الاتهامات التي لابد وأن تصفه بالإساءة إلى الإسلام، تمت إعادة رسم ملامح النسخة الأخيرة من هذا القانون ضمن النص الذي يقول بأنه: "يعزز مبادئ الجمهورية".
اقرأ أيضاً: اعتدت عليه الشرطة الفرنسية.. مصور سوري: ما حصل عشته في بلادي
ومشروع القانون هذا، بحسب ما أعلن رئيس الوزراء جان كاستيكس: "ليس مجرد نص ضد دين، أو ضد الدين الإسلامي"، بل إنه حسب وصفه: "قانون للتحرر من الأصولية الدينية" وقد تم إعداده لتعزيز مبادئ مثل العلمانية والمساواة بين الجنسين، ثم طرح في الذكرى 115 لتبني قانون فصل الدين عن الدولة، ويمثل ذلك أول علمانية مقدسة. وهذه النسخة الفرنسية الصارمة من العلمانية تدافع عن حق من يؤمن أو لا يؤمن، بالإضافة إلى ضمان الحيادية الدينية في الحياة العامة.
غير أن البنود الجديدة ستمر على البرلمان في مطلع عام 2021، وهي تشمل قيوداً صارمة على التعليم المنزلي (دون أن تشتمل على تحريم مؤكد بحسب الوعود التي أطلقت). وبموجبها يتعين على الأبوين أن يتقدما للحصول على إذن بتعليم أولادهما في البيت، وأن يقدما مبررات لذلك. والهدف من كل ذلك هو الحد من الاستعانة بالتعليم المنزلي كوسيلة للتهرب من إشراف الحكومة على تعليم القرآن بطريقة متطرفة، إذ أعلن مسؤولون بأنهم اكتشفوا وجود مثل تلك الدروس في بعض الأحياء.
اقرأ أيضاً: فرنسا تحقق في الاعتداء على المصور السوري أمير الحلبي
كما أن هذا القانون سيسهل على الحكومة أمر تفتيش وإغلاق أماكن العبادة أو الجمعيات التي تتلقى تبرعات من عموم الناس، في حال عدم احترامها لمبادئ الجمهورية، مثل مبدأ مساواة المرأة. فقد منع موظفو الدولة من إبراز أي رموز دينية واضحة وبارزة، مثل الحجاب أو الصليب، وسيتم تعميم هذا المنع على أي شكل من أشكال التعاقد الفرعي مع دوائر الدولة، مثل مراكز العمل (بالرغم من عدم فرض ذلك المنع على من يستعينون بتلك الخدمات العامة ويشمل ذلك الجامعات، ويستثنى من ذلك المدارس حالياً). كما أن من يهددون الموظفين بالعنف للحصول على تنازلات تقوم على أسس دينية سيواجهون عقوبات جنائية.
وأخيراً، سيحرم الأطباء من إصدار شهادات عذرية وذلك لحماية النساء من الضغوطات التي تسبق الزواج، وسيصبح من غير القانوني كشف أو نشر أي معلومات تحدد مكان أو هوية أي شخص في حال كانت تلك المعلومات تعرضه للخطر، إلى جانب فرض عقوبات أقسى على من يقوم بالكشف عن هوية الأشخاص الذين يشغلون مناصب في السلطات. ويعتبر هذا الإجراء رداً مباشراً على الجريمة التي اغتيل فيها باتيه، إذ قام الفتى الذي اغتاله بالتعرف على هويته عبر مواقع التواصل الاجتماعي وذلك قبل أن يسافر إلى المدرسة التي يعمل فيها باتيه مدرساً.
وتعتقد الحكومة أنها بحاجة لسلطات أقوى لتتوغل ضمن المجتمعات المعادية. وترى بأن الجمعيات التي يمارس عليها نفوذ إسلامي متطرف أنشأت مجتمعات موازية، وأصبحت تدير خدمات تبدأ من دور الحضانة وصولاً إلى النشاطات الرياضية، كما أنها تشن حرباً على عقول الشباب. إذ منذ عام 2017، عملت المخابرات مع القضاة والدولة على زعزعة استقرار تلك الشبكات في نحو 15 حياً من تلك الأحياء، حيث قامت بإغلاق 15 مكاناً للعبادة وأربع مدارس. ويرى جيل كيبيل مؤلف الكتاب المنتظر حول الشرق الأوسط والجهادية بأن تلك الجيوب تحولت إلى طريق للجهاديين من مختلف بقاع العالم يقومون من خلاله بتجنيد المقاتلين، وطرح أفكار تثير رهاب الإسلام (إسلاموفوبيا) فضلاً عن تقسيم المجتمعات الغربية. إذ ما بين عامي 2012-2018 غادر أكثر من ألفي مواطن فرنسي بلادهم للالتحاق بالجهاد في سوريا، كما قتل أكثر من 250 شخصاً في هجمات إرهابية وقعت في فرنسا.
ومنذ انتخابه رئيساً، سعى ماكرون لفرض قواعد أشد صرامة وقسوة لأنها باعتقاده ضرورية للدفاع عن المجتمع الفرنسي وحمايته من تلك التأثيرات. وقد وصف وزير العدل الفرنسي إيريك دوبون-موريتيه ذلك القانون بأنه: "قانون حرية عظيم"، إذ في عام 2004، عندما منعت فرنسا الرموز الدينية الواضحة في مدارس الدولة، يتذكر المؤرخ الفرنسي باتريك ويل كيف خلصت لجنة التحقيق التي سبقت صدور القانون إلى أن هنالك حاجة ماسة لحماية الفتيات من الضغوطات الأصولية عليهن والتي تدفعهن لارتداء الحجاب.
اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة تحمّل فرنسا مسؤولية الأطفال الفرنسيين في سوريا
إلا أنه لا يمكن تعميم هذا الرأي على كل الناس، وذلك لأن منتقدي ذلك القانون يرون بأنه منح الحكومة سلطة كبيرة تتجاوز السلطات المحلية، وبأن هذا القانون يشتمل على انتهاك حق الممارسة الدينية الذي يفترض بالعلمانية أن تكفله. كما اتهم البعض الحكومة بأنها تخلط بين التدين المحافظ والنوايا الشريرة، وبأنها تتجاهل العنصرية المتأصلة والتي تسببت بظهور أحياء منعزلة في فرنسا. إلا أن السيد ماكرون لم يركز على وعده بمحاربة التمييز العنصري بقدر تركيزه على حربه ضد الإسلاموية، ولهذا يتهم في بعض الدول الإسلامية بأنه لا يعادي الإسلاموية فحسب، بل يعادي الدين الإسلامي بحد ذاته.
وبالرغم من التأييد الواسع في فرنسا لإجراءات ماكرون، سواء ضمن أوساط يسار الوسط (ومعظمهم علمانيون متشددون)، واليمين، بالرغم من أن زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان تصفهم بأنهم غاية في التدجين، إلا أن بعض قادة المسلمين دعموا تلك الإجراءات والقوانين أيضاً، وعلى رأسهم محمد موسوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، حيث ذكر بأن الهدف الأساسي لتلك الإجراءات هو: "تطمين المسلمين الفرنسيين"، بما أن المتطرفين لا يمثلون إلا "أقلية مهمشة" بحسب وصفه. كما أظهر استطلاع للرأي أجري مؤخراً بأن 79% من الفرنسيين يوافقون على أن: "الإسلاموية في صراع مع فرنسا"، حيث أيد 72% من الاشتراكيين الذين شاركوا في استطلاع الرأي هذا تلك الفكرة، و90% من يمين الوسط كذلك. وهكذا، وقبل موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة بأقل من سنة ونصف، قد يتعرض ماكرون لانتقادات في الخارج بسبب نهجه المتشدد إزاء الإسلاموية، إلا أن شعبيته في الداخل ستزيد بكل تأكيد.
المصدر: إيكونوميست