مارادونا السوري!

2020.12.19 | 23:01 دمشق

160655341026317400.jpg
+A
حجم الخط
-A

بداية يجب الإقرار بأنَّ الملاعب الخضراء هي إحدى ميادين الفروسية المعاصرة، وأنَّ مارادونا أقام نصف هذا البيت الشعري:

 رابط النفس والنهى    ثابت القلب والقدم

 فكان ثابت القدم، لكن قلبه - والقلب هو العقل في العربية- كان فاسداً وكان مضطرب النفس ومعتلَّ النُهى، ويجب أن نقرَّ بأن له أقوالاً شجاعة، ضاعت في غبار أقواله السفيهة، وقد يقال هذا لاعب، وليس الحكيم ديوجين، ولا الواعظ إيسوب، لكن الأضواء لا تعتق اللاعب، فهي تستعبده حتى يغرق في الضوء، وتطلب منه شهادات وأقوالاً ومواقف سياسية، ويدعى إلى المحافل حتى إذا غابت عنه الكاميرات استوحش. كما أن أقواله أصابت أو أخطأت تغدو حكماً ذهبية. لاعب كرة القدم يقول الشعر بالقدم وليس بالقلم.

 وقد بكاه كثيرٌ بعد موته، وتحوّل إلى قديس في الأرجنتين، ونصبت له تماثيل وأنصاب، وسعى عشاقه إلى صور تذكارية حتى مع جثته، ورأيناه بعد هدف الأرجنتين في مرمى نيجيريا يركض مثل الطفل إلى أمه الكاميرا، ويؤدي إشارة النصر بإصبعه الوسطى للخصوم، فخسر المباراة لأنه لم يصبر حتى نهايتها، وطُرد من منصبه أيضاً.

 ورأينا اللاعبة الإسبانية الشجاعة باولا دابينا ترفض الوقوف دقيقة صمت حداداً على رحيل الأسطورة الأرجنتينية دييغو مارادونا، فجلست على الأرض، وأدارت ظهرها للعالم، وقالت دابينا إنها ترفض الوقوف من أجل "مغتصب ومعتد وشاذ جنسياً"، فله قصص في الزواج والاغتصاب والمخدرات يندى لها الجبين والخد وتوفيق الدقن.

توقف ماردونا عن نظم الشعر بقدمه، فلم يبق له من بيت إبراهيم طوقان سوى صورة اللحم والدم، وتوقف نموه طولاً، لكنه استمر بالنمو عرضاً لإفراطه في الملذات الشخصية التي كان المذيع الأيوبي يُكره ضيوفه على الاعتراف بها. ونقرُّ أنه منح الأرجنتين صيتاً وشهرة لم يمنحها أحد من أبنائها، ذلك أنّ كرة القدم دين جديد في العالم، عمره قرن أو أقل، اعتنقه الكثيرون سوى أميركا وإسرائيل والهند، فهذه الدول تدين بمذاهب ألعاب أخرى غيرها، بعضها يؤدى بالقدم وبعضها باليد وبعضها بالعصي. لكنها ديانات شقيقة ونيران صديقة.

توصف بلاد العرب الحائزة على بعض الميداليات العالمية بأنها بلاد ميداليات ألعاب القوى لأنها ألعاب فردية، فهم لا يستطيعون التكافل والتعاون في الألعاب الجماعية

 بعد أن فرشنا الديباجة لا بد أن نأتي إلى الدجاجة، ونقول إن سوريا الأسد لم يكن بها مارادونا، ولم يكن لتظهر فيها موهبة كروية مثل مارادونا. كرة القدم حتى تشيع وتثمر مجداً في بلد، لا بد أن يكون متمتعاً ببعض الحريات السياسية والاجتماعية والرياضية مثل الأرجنتين، أو أن يكون رأسمالياً، فللملكية الخاصة حرمة وقدسية، كأن تكون فيها فرق رياضية مملوكة لشركات لا يتدخل في شؤونها المخابرات، وكان الأسد يخشى مكانين: الجامع والملعب،  فعمل على تعقيم الملاعب والجوامع، فهما دينان يجمعان الناس، وكانت الأرجنتين على فقرها، تشجع بناء الملاعب الخضراء، فلا حارة أو حي إلا وبه صبية يجرون وراء الكرة،  بينما كان لاعبو سوريا الموهوبون لاعبين "بعليين"، نشؤوا  بماء السماء وليس بسماد الحكومة.

 توصف بلاد العرب الحائزة على بعض الميداليات العالمية بأنها بلاد ميداليات ألعاب القوى لأنها ألعاب فردية، فهم لا يستطيعون التكافل والتعاون في الألعاب الجماعية، ليس لأنَّ العرب فرديون بل لأن الأنظمة تحظر التعاون والتكافل والعمل كفريق. عدد سوريا هو نصف عدد سكان الأرجنتين، وقد قدّمت الأرجنتين للعالم مواهب كروية كثيرة، ولم تقدم سوريا الأسد نصف مواهب الأرجنتين ولا حتى ربعها.

لم يبرز في سوريا الأسد علماء، وفيها عقول كثيرة وغزيرة، فإما هاجروا وإما قتلوا في المعتقلات. وكانت تدّعي العروبة فلم تنشر المسابقات الأدبية والشعرية حتى يبرع التلاميذ في الشعر والأدب، أمر وحيد نبغ فيه الشعب السوري في العصر الدجاجي، هو التمثيل، فقد غدت صناعة سوريا الأسد الثقيلة، وباتت تصدّر المسلسلات حتى جلست رغدا وسلاف فواخرجي على عرش زنوبيا وكليوباترا، حتى إنَّ مخرجاً معروفاً مقرّباً من الأسد، صار عضواً في مجلس الشعب بالتعيين، تضايق من البوطي الذي ندّد بمسلسل "الحور العين"، فطالب بإخراسه ومحاكمته لأنه يعيق عجلة الإنتاج الصناعي الثقيل المقدس، فأمرت المخابرات مخرجها المصاب بعقدة الفانتازيا التاريخية بالجلوس على ذيله وطلبت منه السكوت، فالبوطي يؤم جمهورا من المسلمين السنّة، ونفعه أكثر من ضرره، إن كان له ضرر. وتعلم المخابرات أنَّ الفانتازيا التاريخية لن تصير ديناً للشعب السوري.

الممثل مضمون الولاء غالباً، وهو يعمل حسب "الأوردر"، والتمثيل فنٌّ لا يزال طارئاً على العرب، وكان يُطلق على الممثل اسم المشخصاتي وهو اسم مرذول، لأن فنُّ التمثيل هو فنُّ الكذب.

قال مارلون براندو وهو أشهر ممثل أميركي وأعلاهم أجراً: إنَّ الممثل يتقمص الأدوار حتى تضيع شخصيته الحقيقية، وقلما صار الممثل أسوة حسنة للأجيال مع أن الدولة تقدّمه على العلماء والأدباء، وقد قبل النظام بعودة الممثل ياسر العظمة النازح بشرط بقائه على الحياد، وذلك أنفع للنظام، فهو سيضمن أنه لن يثور ضده، وكان العظمة يعمل في فن التنفيس والتنفيس يوفر على النظام الأوكسجين ثانيا، وثالثا هو حفيد وزير الدفاع السوري الذي مات من أجل وطنه، تاركاً ابنته وحيدة، وهذا مكسب ثان. كأنه بعودته يقول: يوسف العظمة معكم.

لم يبرز لاعبو كرة قدم في سوريا الأسد للأسباب السالفة، فاللاعب أكثر حرية من الممثل، فقد يكبر في الخارج، بينما يظل الممثل محلياً إلا في حالات نادرة، فخطر اللاعب أكبر من خطر الممثل سياسياً، وفساد اللاعب أقل، فلا يطلب اللعب فساداً في الاخلاق كما يتطلب التمثيل، الذي يخفي بكواليسه المغلقة فساداً عظيماً، لذلك لم نرَ لاعبين سوريين كباراً كما رأينا ممثلين، حتى صاروا بالمئات والآلاف.

 قد يبرز أحياناً نجم ويشعّ، وهو لا ينتمي إلى الملاعب ولا إلى التمثيل، مثل الفارس عدنان قصار، فكان أن اعتقل 23 سنة، أو رائد الفضاء محمد فارس، الذي لم يجرؤ النظام على اعتقاله فقيّد حركته فيما يشبه الإقامة الجبرية.

لنتخيل لو أنّ ماردونا سورياً، ولكان قال عندما حقق ذلك الهدف الشهير بيده في محراب المرمى: إنها يد الأسد.

النظام نفسه، يوظف الفن لخدمته، مع أنه لا يحترمه، ومع ذلك يعتمد عليه، فهو دينه الجديد، أنظر إلى بطلة مسلسل شارع شيكاغو التي دافع زوجها عن نفسه عندما اتهم بأنه مع النظام قائلاً: أنا لست مع النظام، بل أنا النظام نفسه. وهو محقّ، فالسياسة تمثيل، والتمثيل سياسة أيضاً.

ربما كان الشبه قوياً بين نجمة شيكاغو الحسناء وبين النظام، فكلاهما يمثّل علينا، وقد رضي زوجها بأن تمنح زوجته زميلها قبلة في المسلسلات العائلية، وكذلك منح النظام أبواب القلعة السورية للاستعمارين الفارسي والروسي. لم نجد الأسد يتفضل على السيدة شيكاغو بصورة معها، ومنح هذا الفضل للقبيسيات!

لو كان لنا ماردونا سوري، لرأيناه بعد كل مباراة يفوز فيها، يحمل صورة الأسد ويطوف حول الملعب. لنتخيل لو أنّ ماردونا سورياً، ولكان قال عندما حقق ذلك الهدف الشهير بيده في محراب المرمى: إنها يد الأسد.