ماذا وراء تفعيل خط أنقرة – بغداد؟

2019.05.19 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كرونولوجيا الأعوام الأخيرة في مسار العلاقات التركية العراقية لم يكن مشجعا أبدا: تراشق إعلامي، وتصعيد سياسي، وتهديد بسحب السفراء، وتراجع أسلوب الدبلوماسية الناعمة لصالح "الرد الاستباقي" في رسم سياساتهما وتحديد خياراتهما الثنائية والإقليمية. تلك كانت أبرز ملامح النفق المسدود الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين في أواخر العام المنصرم.

تدهورت العلاقات في موضوع دخول القوات العسكرية التركية إلى منطقة بعشيقة ورفضت أنقرة سحب هذه الوحدات رغم الاعتراضات العراقية المتكررة، وأصرت على القيام بعمليات عسكرية داخل شمال العراق ضد عناصر حزب العمال الكردستاني ودون علم وموافقة بغداد في العديد من الأحيان، ثم تفاعلت أزمة الاستفادة من نهري دجلة والفرات وحصة بغداد المائية ومشاكل السدود التي تنشئها تركيا مما دفع العراق للتوجه إلى منصات عربية وإقليمية ودولية للدفاع عن مواقفه، أوصلت الأمور إلى التلويح باستخدام القوة.

كرونولوجيا الأشهر الأربعة الأخيرة قلبت الأمور رأساً على عقب نحو الإيجابيات هذه المرة:

زيارة الرئيس العراقي برهام صالح في مطلع العام إلى تركيا.

زيارة رئيس مجلس النواب التركي مصطفى شنطوب في 20 من نيسان المنصرم على هامش أعمال مؤتمر برلمانات دول الجوار الذي استضافته العاصمة العراقية بغداد.

تدهورت العلاقات في موضوع دخول القوات العسكرية التركية إلى منطقة بعشيقة ورفضت أنقرة سحب هذه الوحدات رغم الاعتراضات العراقية المتكررة، وأصرت على القيام بعمليات عسكرية داخل شمال العراق ضد عناصر حزب العمال الكردستاني ودون علم وموافقة بغداد

زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى العراق في آخر نيسان الماضي والتي شملت البصرة وبغداد وأربيل.

والآن زيارة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى العاصمة التركية في منتصف شهر أيار الحالي.

اللغة والأسلوب هذه المرة أوجزته بيانات رسمية في البلدين تتحدث عن زيارة للمهدي تتطرق إلى بحث سبل التنسيق في مكافحة الإرهاب وإعادة إعمار العراق، وتوسيع التعاون الاقتصادي لا سيما في ما يتعلق بالتعاون في مجال الطاقة بالإضافة إلى عدد من الملفات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك. وحديث جديد لوزير الخارجية العراقي، يقول إن بلاده لن تسمح بأن تتحول الأراضي العراقية إلى مصدر للهجمات والاعتداءات الموجهة ضد تركيا.

فما الذي جرى؟

وما هي أهداف هذا الحوار التركي العراقي الجديد؟

وما هي فرص نجاح هذا التحرك الثنائي الموسع وترجمته إلى خطط تعاون وتنسيق سياسي أمني إنمائي مشترك؟

عادل عبد المهدي منذ عام تقريباً على رأس الحكومة العراقية وهو يعرف تركيا جيدا بحكم تجاربه السياسية السابقة وعلاقات الصداقة الشخصية التي أقامها مع العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية والفكرية التركية. صحيح أنه أمضى ساعات فقط في العاصمة التركية أنقرة لكن طبيعة الوفود المشاركة في اللقاءات وبرمجة التحرك الثنائي المشترك في المرحلة القصيرة المقبلة يساعدنا ربما على أن نكون أكثر تفاؤلا هذه المرة.

هناك نقاط أمنية تقلق أنقرة خصوصا تواجد مخيمات لمجموعات "حزب العمال الكردستاني" في قنديل وسنجار وهناك تمسك بغداد بضرورة سحب القوات التركية الموجودة داخل العراق بعدما انتهى خطر تنظيم داعش وتقدمت التعهدات الثنائية بالتعاون في مواجهة الإرهاب مهما كان نوعه. لكن الإيجابي هو تقديم قرار الإعلان عن توسيع رقعة التعاون الأمني والعسكري بين الجانبين في إطار الحرب على الإرهاب والمرتبط بموضوع الوجود العسكري التركي في شمال العراق وإنهاء توتر بعشيقة الذي فجّر الخلافات أكثر من مرة.

هناك نقاط أمنية تقلق أنقرة خصوصا وجود مخيمات لمجموعات "حزب العمال الكردستاني" في قنديل وسنجار وهناك تمسك بغداد بضرورة سحب القوات التركية الموجودة داخل العراق بعدما انتهى خطر تنظيم داعش

القيادات السياسية التركية تحب الحديث بلغة الأرقام وكان آخرها إعلان الرغبة برفع مستوى التبادل التجاري إلى 20 مليار دولار بأسرع ما يكون بين البلدين. والقيادات العراقية لها أولوياتها في ملفات أمنية وإنمائية تريد التفاهم حولها. قد تكون كل هذه العناصر مادة إيجابية لتنشيط قنوات الحوار وتفعيل البرامج وخطط التعاون وحلحلة العديد من المشاكل والأزمات التي تنتظر تحت الرماد.

الجديد هذه المرة أيضا تبنّي الجميع لحقيقة أن الذي يوتّر العلاقات التركية العراقية هو ليس دائما ملفات الخلافات الثنائية بل هناك مشاكل وأزمات إقليمية مرتبطة بالتحالفات والملفات المتشابكة المتداخلة الكثيرة. مصالح أطراف ثالثة وحساباتها لعبت وما تزال دورا في التأزم والتصعيد السياسي والإعلامي وهذا ما تريد أنقرة وبغداد قطع الطريق عليه.

في موضوع المياه مثلا يبدو أن الطرفين وصلا إلى قناعة مشتركة في الأشهر الأخيرة حول ضرورة التعاون والتنسيق الثنائي لطرح خطط وبرامج تنمية وتطوير سريع في الجانب العراقي على ضوء التجارب المائية التركية. وهنا يأتي دور اللجنة الفنية المشتركة وتسريع مهامها بعدما عين الرئيس التركي وزير الموارد المائية الأسبق "ويسال آر أوغلو" ممثلا خاصا له في هذا الملف وأعد فريق عمل من الخبراء والتقنيين الأتراك زاروا العراق وقدموا خطط باتجاه التعاون لتطوير ودعم مشاريع مائية عراقية في إطار برامج ميدانية قصيرة ومتوسطة الأجل.

في موضوع النفط يبدو أن الجانب العراقي قد تعهد بزيادة كميات تزويد تركيا بالنفط وأبدى ترحيبه بخطة الإسراع في إصلاح خط كركوك – جيهان الذي خربت مجموعات داعش جزءا منه. تركيا تتطلع لضمانة سد أي عجز أو نقص يحصل في احتياجاتها النفطية في حال وقوع أزمة إقليمية بهذا الخصوص نتيجة التوتر الأميركي الإيراني.

من أين إلى أين؟

حتى الأمس القريب كان صعبا إحصاء عدد قرارات استدعاء السفراء بشكل متبادل بين البلدين ورسائل الاحتجاج على مواقف استفزازية تصعيدية والتحذير أن الأمور تذهب بمنحى المواجهة العسكرية المباشرة. بين سيناريوهات التصعيد قبل عام طرح توصية برلمانية عراقية مفصلة قُدمت على شكل خريطة طريق لرئيس الوزراء العراقي للتعامل مع تركيا في اتجاه إجبارها على سحب جنودها من العراق، آخرها التقدم بشكوى عاجلة إلى مجلس الأمن الدولي.

القناعة الأهم على ضوء الحوار وجسور التواصل التركية العراقية الجديدة هي أن لا أحد في الطرفين يرغب في التصعيد وأن فرص الحوار الحقيقي الصريح والشفاف هي الفرصة الوحيدة لتجاوز الكثير من المشاكل والخلافات.

أما اليوم فالذي يتقدم هو قراءة براغماتية جديدة على خط أنقرة – بغداد تقوم على التخلي عن سياسة حماية المصالح على حساب الطرف الآخر وإضعاف دور وتأثير العوامل الإقليمية الخارجية في التحكم بالمسار السلبي للعلاقات وفتح الطريق على وسعه أمام تركيب طاولة الحوار الثنائي المباشر الحقيقي والشامل.

الذي قد يكون ساهم في الحوار الحقيقي والجاد هذه المرة هو استرداد العراق الكثير من قوته وتماسكه الداخلي والخارجي وانتصاره على تنظيم داعش الإرهابي وعرقلة مخطط الانفصال في شمال العراق كما قال رئيس البرلمان التركي شنطوب.

رئيس الوزراء العراقي يدعو بأسلوب ولغة انفتاحية تختلف تماما عما كان يردد قبل عام مثلا إلى توسيع العلاقات بين الجانبين وأن لا تنحصر بزيادة التبادل التجاري فقط بل تتعدى إلى تأسيس وإنشاء مصانع ومصالح وشراكات اقتصادية داخل العراق في مجالات الصناعة والتجارة والإعمار واستثمار الأراضي الزراعية من قبل رجال الأعمال والشركات التركية.

القناعة الأهم على ضوء الحوار وجسور التواصل التركية العراقية الجديدة هي أن لا أحد في الطرفين يرغب في التصعيد وأن فرص الحوار الحقيقي الصريح والشفاف هي الفرصة الوحيدة لتجاوز الكثير من المشاكل والخلافات.

ملفات عاجلة تتطلب التحرك السريع وفي مقدمتها مشاكل المياه والحرب على الإرهاب وإنهاء التلويح بأوراق التدخل في الشؤون الداخلية للبلدين أو اللجوء إلى المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية لكسب دعمها أو السماح بدخول أطراف ثالثة على الخط يهم بعضها صب الزيت على النار. الرئيس أردوغان كان قد وعد بزيارة بغداد بعد الانتهاء من الانتخابات المحلية في تركيا. الزيارة هذه المرة لا بد أن يسبقها ترجمات عملية لبعض ما تم الاتفاق عليه لتوسيع دائرة التفاؤل التي وعدنا شعب البلدين بها.