مات "الورفلي".. عاش "الأسد"

2021.03.30 | 06:40 دمشق

5qasp.jpg
+A
حجم الخط
-A

تناقلت وكالات الأنباء الأسبوع الماضي، نبأ مقتل المقدم محمود الورفلي في مدينة بنغازي شرق ليبيا. غالباً كانت تأتي صياغة الخبر على النحو الآتي: "اغتال مجهولون في مدينة بنغازي الليبية، اليوم الأربعاء (24 مارس/ آذار 2021)، الضابط الليبي محمود الورفلي، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية". نعم، في أغسطس/آب 2017 كانت المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحق الورفلي بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وطالبت حفتر بتسليمه. وتتهم مذكرة المحكمة الدولية الورفلي بالمسؤولية عن قتل ما لا يقل عن 33 شخصاً.

في بدايات عام 2018 ستدرج الشرطةُ الجنائية الدولية الإنتربول الورفلي على قائمة المطلوبين، متهمة إياه بتنفيذ إعدامات خارج نطاق القضاء. أواخر عام 2019 ستنتبه وزارة الخزانة الأميركية للورفلي، وتدرجه على قائمتها الخاصة بالعقوبات، متهمة إياه بقتل 43 محتجزاً غير مسلحين في ثماني حوادث منفصلة.

طبعاً لم يكن مفاجئاً قتل الرجل في إطار التسويات التي تتم اليوم على الساحة الليبية. ولم يكن مفاجئاً قبلها طلب المدعية العامة للجنائية الدولية القبض عليه، فعلى هذا النحو يجب أن تأخذ العدالة الدولية مجراها. هو مجرم حرب حقاً، ويستحق أن يمثل أمام قضاء عادل. هل كررت لمرتين متتاليتين أنني لم أتفاجأ؟ أجل لقد فعلت. فصدمتي لم تكن بفعل الخبر الأخير، الذي بدا مفرحاً لذوي الضحايا ولمعظم الليبيين، ولا بخبر طلبه للعدالة قبل أربعة أعوام، وكان حينذاك مفرحاً لكل إنسان يمتلك في داخله روح العدالة، ولكن الصدمة والمفاجأة ستتأتى عند التفكير بالمسارات الملتوية التي تأخذها العدالة الدولية.

كيف ينجو الأسد؟ ومن هم أولئك الذين يستثمرون في جرائمه ويحمونه؟ من الذي بيده تلك العصا السحرية التي تنقذ نظام بشار الأسد كلما أوشك على السقوط

مثل أي سوريّ آخر فرحت وصدمت عام 2017 بقرار المحكمة الجنائية الدولية القبض على الورفلي لإعدامه 33 ليبياً خارج سلطة القضاء. نعم، كأي سوري يستطيع التخمين، دون القدرة على تأكيد الأرقام الحقيقية لضحايا الأسد، والذين هم بمئات الآلاف، جلّهم من المدنيين والأطفال والنساء والشيوخ، كان يجب على قرار كهذا أن يصدمني رغم عدالته، ويدفعني لتساؤلٍ أجده وكل السوريين محقاً: إذاً كيف ينجو الأسد؟ ومن هم أولئك الذين يستثمرون في جرائمه ويحمونه؟ من الذي بيده تلك العصا السحرية التي تنقذ نظام بشار الأسد كلما أوشك على السقوط، مراراً خلال الثورة، وقبلها إثر اغتيال الراحل رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان؟ من يجعل كل المحرمات الدولية مقبولةً في الوضع السوري؟ كيف يستطيع حزبٌ لقيط كحزب الله دخول سوريا؟ ومن سمح بذلك؟ كيف غدا بوتين في العقد الأخير قطباً عالمياً خلال قيادته لبلد مأزوم اقتصادياً، من خلال البوابة السورية، ومن سمح بذلك؟ وفي ليبيا، كيف لمجرم قتل ثلاثين مدنياً بحسب صور نشرها الورفلي بنفسه، أن يشكل تلك الخطورة على المجتمع الدولي، وهذا بالتأكيد صحيح، بينما يشكل تفكيك نظام الأسد في سوريا، بحسب حلفائه وأعدائه الدوليين، تهديداً للسلم الدولي؟ للمفارقة تؤكد القاضية الفرنسية "كاترين أويل" رئيسة الآلية الدولية المحايدة والمستقلة الخاصة بسوريا، أنهم جمعوا ما يقارب مليون وثيقة لإدانة نظام الأسد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

كعادته، حين يُثار موضوع محاكمة الأسد، سيكون للمجتمع الدولي مطالعته السياسية التي دأبَ عليها، رغم أنها تنزّ بروائح انعدام الصدقيّة، عن تعقيدات الوضع السوري. الوضع الذي يتيح لأعتى مجرم حرب معاصر أن يبقى ونظامه بمنأى عن الملاحقة القانونية، مع استمراره في ارتكاب الجرائم المتتالية، ويومياً منذ عشر سنوات. يشعر عموم السوريين بحدسٍ، أثبته تتالي الأحداث، بأن لا رغبة دولية حقيقية في الخلاص من نظام الأسد. بل وأن هناك قراراً ببقائه، استوجب من القوى الفاعلة إيصال الوضع السوري والوقائع على الأرض إلى ما وصلت إليه، تمهيداً لنتيجةٍ (تنطوي على كثيرٍ من الخسّة السياسية) تفيد بأن بقاء الأسد، ولو لفترة انتقالية، إنما هو ضرورة تمليها الوقائع على الأرض.

كلما وصل نظام الأسد إلى حافة الموت السريري، يتفعّل هذا المسعف الدولي المنقذ

مُحمَّلين بهذا الإحساس، كان السوريون في كل مرحلة يعددون أمام العالم، وطبعاً فيما بينهم، جرائم الأسد. مئات المجازر الجماعية بحق المدنيين، تهديم المدن، استخدام كل أنواع الأسلحة في مواجهة السوريين، القنابل العنقودية، صواريخ سكود، البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. وبعد انتهائهم من تعدادها يطرحون سؤالهم الأهم: كيف للعالم القدرة على التعايش مع نظام ارتكب كل هذه الجرائم؟ على مدار نصف قرن استشعر السوريون وجود "بحصة دولية" تسند جرّة الأسد. منذ دخوله لبنان محتلاً واغتياله العديد من الشخصيات اللبنانية في تلك الفترة، لم يكن أولها كمال جنبلاط ولا آخرها الرئيس اللبناني رينيه معوض، وبعدها تدميره لأحياء في مدينة حماة وارتكابه المجازر فيها. ثم عاد السوريون ليتأكدوا من تلك البحصة المستمرة مع نظام الأسد الابن، يوم قتل الرئيس الحريري عام 2005، أما بعد عام 2011 فقد تطورت نظرتهم ليعتقدوا بأنها ليست بحصة تلك التي تسنده، وإنما صخرة لا بأس أن تتحطم عليها أضلاع السوريين. واليوم إحدى البديهيات للسوري أنه كلما وصل نظام الأسد إلى حافة الموت السريري، يتفعّل هذا المسعف الدولي المنقذ، أقلّه بإدارة الظهر لجرائم كان عُشرها يكفي لكي تنتفض الأمم لمواجهتها لولا أن مرتكبها هو نظام الأسد المرعيّ دولياً.

هل كان هناك في التاريخ عصور دُعيت "عصور الانحطاط"؟ اللعنة. ماذا سنطلق على عصرنا هذا إذاً؟