مات الأسد وبقيت الأسدية

2019.06.13 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قبل تسعة عشر عاماً، وفي العاشر من حزيران عام 2000، توفي الدكتاتور الأسد الأب، نتيجة لمرض أصابه، حيث تمنى الكثيرون أن تكون فاتحة خير على البلاد، لكن النظام الأسدي الذي رتبه الأب سرعان ما اجتمع بقوة المخابرات على تنصيب الوريث، الأسد الابن، كتعبير واضح عن استمرار نظام العائلة الأسدية التي نجحت في تحويل سوريا إلى مزرعة لها.

في ذات اليوم، صرح رياض الترك، المناضل المعروف بجرأته وشجاعته، ومن قلب دمشق، بأن الدكتاتور مات، حيث أُعيد اعتقاله ثانية لمدة عامين ونصف بعد اعتقاله الطويل في ظل الدكتاتور الأب الذي طال لثمانية عشر عاماً. دخلت سوريا بعد وفاة الدكتاتور في مرحلة جديدة كشفت السنوات اللاحقة أن دكتاتورية العائلة الأسدية مستمرة بقذارة أكبر، حيث ارتكبت من الفظائع الكثير، وكان شعارها الشهير وقت الثورة، الأسد أو حرق وتدمير البلد خير تعبير عن روح وجوهر تلك الدكتاتورية.

قامت الأسدية على عبادة وتقديس شخصية الفرد الذي تقدمه العائلة (الأب ثم الابن) كشخص معصوم عن الخطأ، يرى مصلحة الناس أكثر مما يدركوها ويترجمها لأفعال خدمة لمصالحهم حتى لو كان ذلك في قتلهم، فلا بد أن هناك "خيراً" ما من وراء قتلهم تدركه القيادة ولا يمكن للجماهير معرفته في حينها، فالقيادة مكشوفة الحجاب، وملهَمة.

والعمود الثاني في عمارتها هو تحويل الهزائم إلى انتصارات، فهزيمة عام 1967 التي كان الأسد الأب "بطلها" تحولت إلى نصر لأن "الكيان الصهيوني الغاشم" لم يتمكن من تحقيق هدفه في دحر الأنظمة الثورية، وتتالت التفسيرات ذاتها مع كل الحروب مع إسرائيل، إلى أن أصبحت سورية الأسدية الجار الأكثر رضى وأماناً لتلك الدولة/ الجارة المدللة.

قامت الأسدية على عبادة وتقديس شخصية الفرد الذي تقدمه العائلة (الأب ثم الابن) كشخص معصوم عن الخطأ، يرى مصلحة الناس أكثر مما يدركوها ويترجمها لأفعال خدمة لمصالحهم حتى لو كان ذلك في قتلهم

وفيزيائياً تجلت الأسدية في أجهزة المخابرات القوية والقائمة على أسس طائفية، فوجهت كل مقدراتها لسحق المواطن السوري الذي يتجرأ على الوقوف ضد الأسدية حتى بالحلم، لدرجة تجاوزت في فنون تعذيبها كل ما يخطر على البال من طرق قائمة ومتخيّلة. كما بنت جيشها، -وليس جيش سوريا- لحماية نظامها من أي ثورة أو موقف من السوريين، ففي الثمانينيات، نشرت الجيش في المدن التي تمردت ضدها مثل حلب وجسر الشغور وسرمدا، وتوجتها بالمذبحة الفظيعة في حماة في شباط 1982، أما اليوم، فكان الشعار والسلوك واضحين: المخابرات والجيش في مواجهة الشعب، لحرق وتدمير البلد من أجل بقاء الأسدية.

والأمر الآخر، هو أن الأسدية خلقت طبقة جديدة حولها راكمت ثروتها نتيجة لعلاقتها ومقدار ولائها للنظام ولرأسه وعُرفت ببرجوازية المحسوبيات، طبقة على استعداد لأن تجند كل طاقاتها وثروتها وصالات معاملها لخدمة الأسدية، فجندت الميليشيات المحلية ودعمتها بأموالها، وحوّل البعض منها صالات معامله لمراكز اعتقال واحتجاز للثائرين على سيدها، النظام الأسدي.

خلقت الأسدية نظاماً تراكمياً يقوم على الإفساد وشراء الذمم ترغيباً أو ترهيباً، فجمعت حولها فئة من "المثقفين" الذين يحملون على كاهلهم عبء محاربة "الإمبريالية وربيبتها الصهيونية" التي تنهب الشعوب، ويبشرون بثورة تحقق أحلام البسطاء في الخبز والحرية في أماكن أخرى غير سوريا، تقودها الأنظمة الأسدية وأشباهها نظراً لخبرتها المزمنة في مقارعة الإمبريالية، ودورها الرائد في الممانعة والمقاومة.

لم تنحصر الأسدية كشبكة إفساد لا أخلاقية في نظامها فحسب، وإنما تمكنت من الانتقال وغزو ساحات أخرى من المفترض أنها ساحات وحقول مقاومة لها، وأكثر ما تجلى ذلك في نزعة بعض المثقفين الذين حسبوا أنفسهم ونصبّهم راعيهم على أنهم من أنصار الثورة والتغيير، ومن الرافضين لسلطان العائلة الأسدية، فنصبّوا أنفسهم أوصياء على الناس، لديهم المسطرة التي تقيس أبعاد جادة الصواب، والبوصلة التي تهدي نضالات الناس، ولكون حركة الشعوب غير خاضعة لمثل تلك القياسات الخنفشارية، فانهالوا عليهم بتهم كثيرة، ومن سوء حظهم أن الناس لم تقرأ مثلهم نظريات الثورة وعلوم الحداثة وما بعدها، فلم يلتفتوا أبداً لما يقولونه، بل تركوهم خلفهم، ماضين في طريقهم يصنعون التاريخ، تاركين لهم دور القياس بالمسطرة والتقييم.

نجحت الأسدية في بناء شبكة من العلاقات الدولية والإقليمية والداخلية، تمكنت بموجبها من الاستمرار حتى اليوم في ارتكاب جرائمها، وخاصة في السجون حيث تتجلى سيادتها هناك، و"قاومت" إسرائيل التي تحميها علناً كنظام أكثر أمناً لحدودها،

نجحت الأسدية في بناء شبكة من العلاقات الدولية والإقليمية والداخلية، تمكنت بموجبها من الاستمرار حتى اليوم في ارتكاب جرائمها، وخاصة في السجون حيث تتجلى سيادتها هناك، و"قاومت" إسرائيل التي تحميها علناً كنظام أكثر أمناً لحدودها، وسلّمت البلاد لإيران وروسيا، اللتين لم توفرا أي سلاح لتدمير السوريين وتهجيرهم، وخلقت جيشاً من الموالين و "المعارضين" على ضفتي المعركة لخدمة استمرارها، الذي يضمن بشكل من الأشكال استمرارهم.

الأسدية هي نظام من القتل والفساد والإثراء قوامه كبار شخصيات المخابرات وقادة الفرق العسكرية وبرجوزاية المحسوبية وثلة من المثقفين والمشايخ، ويتمحور كامل النظام حول شخصية رأس النظام. إن البرص الأخلاقي والقيمي، الذي تمتلكه الأسدية كان من الكبر بما يكفي لأن يفيض على الكثيرين، وبالتالي فإن معركة الخلاص من الأسدية كنظام تغلغل في مختلف ثنايا البلاد طويلة، والسوريون بدؤوها، ولن يتراجعوا حتى الخلاص منها وتهيئة الظروف التي توفر الكرامة والحرية للجميع.