مؤشرات من وحي الكارثة

2023.02.22 | 06:11 دمشق

مؤشرات من وحي الكارثة
+A
حجم الخط
-A

تؤشر كارثة الزلزال الأخير الذي طال دماره مناطق كثيرة شمال غربي سوريا، وحجم وطبيعة استجابة قوى الأمر الواقع وحكوماتها إلى مستوى البؤس الذي تعاني منه هذه الحكومات التي لم تقدم أي شيء على الإطلاق حتى على مستوى الفعل الدبلوماسي مع الدول المانحة، واكتفت جيوشها الجرارة بالفرجة على آثار الدمار لا أكثر في حين يقاتل رجال الدفاع المدني – الخوذ البيضاء - الوقت لإنقاذ مزيد من الناجين وانتشالهم من تحت الركام بما تيسر لها من أدوات وكوادر بشرية وصلت ليلها بنهارها لكنها ما كانت لتكفي في جميع الأحوال لتغطي مختلف المناطق المنكوبة بالشكل الذي يساعد بإنقاذ كثيرين وهو جهد تنحني له قامات السوريين تبجيلا واحتراما.

أما تلك القوى والأدوات الكسيحة فلم نلحظ لهم أي دور أو مساهمة تذكر.. فأين ذلك الجيش الوطني العرمرم الذي شنفوا أذاننا به ولماذا لم يتدخل ويقدم الدعم والمساندة ويساهم في رفع الأنقاض وإنقاذ المدنيين أم أن مهمته تقتصر على امتهان كرامات هؤلاء المدنيين واستباحة حقوقهم فحسب؟ وكيف لهؤلاء المدنيين أن يأمنوا بعد الآن أن هذا الجيش يمكن أن يدافع عنهم وينتصر لهم في زمن الحرب بينما هو تخلى عنهم في زمن السلم والكارثة؟ وأين الحكومات ودورها؟ وما هي الإجراءات العاجلة التي اتخذتها لإيواء المنكوبين وإغاثتهم وتقديم الدعم لهم؟.. كل ما شهدناه وتابعناه لم يكن لهم فيه دور، ومن حمل عبء تلك الأعمال هي مجرد مبادرات شعبية وتدخل للمنظمات الإنسانية لا أكثر، ما يطرح سؤالا جديا حول جدواها وضرورتها أصلا (!).

كثير من المباني التي انهارت بالزلزال كانت قد بنيت حديثا خلال العقد الأخير، وهذا يعني أن الأشخاص أو المؤسسات التي قامت بتنفيذها لم تكن تراعي المعايير الإنشائية اللازمة لمقاومة الزلازل

أما المجالس المحلية التي لم يعلم أحد من السوريين من انتخبها وكيف تم ذلك ومتى، والتي يفترض أنها الجهة الإدارية المسؤولة محليا عن إدارة مختلف شؤون المواطنين في مناطقها الإدارية فإنها وكما كشفت نتائج الكارثة لم تكن تضطلع بدورها كما يجب خاصة فيما يتعلق بالتوسع العمراني والتراخيص الإنشائية للأبنية والمساكن، حيث اتضح أن كثيرا من المباني التي انهارت بالزلزال كانت قد بنيت حديثا خلال العقد الأخير، وهذا يعني أن الأشخاص أو المؤسسات التي قامت بتنفيذها لم تكن تراعي المعايير الإنشائية اللازمة لمقاومة الزلازل أو لم تكن هناك دراسات أصلا لمدى صلاحية الأراضي التي بنيت عليها تلك المباني للبناء أصلا، فضلا عن غياب الرقابة عند التنفيذ، ما يضعنا أمام أسئلة مهمة من قبيل هل تم التوسع العمراني أصلا بعلم تلك المجالس؟ وهل كانت هناك دراسات هندسية للتربة للتثبت من مدى صلاحية المكان للإعمار؟ وهل استوفيت في الخرائط الهندسية المقدمة للمجالس للحصول على التراخيص اللازمة معايير السلامة البنيوية للأبنية وعدد الطوابق المسموح بناؤها ونوعية وكمية الحديد والإسمنت اللازمة لفعل ذلك؟ وهل كان هناك دور لنقابات المهندسين في تلك المناطق في دراسة وتصديق المخططات الهندسية قبل إجازتها وإصدار التراخيص لها؟ وهل كانت هناك رقابة ومتابعة من قبل مختصين في تلك المجالس على حسن تنفيذ الأعمال أم كان الأمر متروكا على الغارب يبني كل من يشاء أينما شاء وبالشكل الذي يشاء؟؟!!.

ثم أين دور القضاء وهل قام بفتح تحقيقات مع الأفراد أو مديري المؤسسات التي قامت بتنفيذ مشاريع عمرانية حديثة الإنشاء، سرعان ما انهارت مع أول زلزال وقضى تحتها المئات من الأبرياء؟ هل شكل لجنة فنية لأخذ عينات من التربة وعينات من الأنقاض لفحصها والتثبت من مدى مطابقتها للشروط الفنية وللمخططات التي تم اعتمادها قبل البناء؟ وهل صدرت نتائج تلك الفحوصات الفنية؟ وفي حال أثبتت تلك الفحوصات مخالفة بالمعايير والمواصفات، هل تم فتح تحقيق مع المسؤولين عن التراخيص في تلك المجالس ومساءلتها عن تلك المخالفات إن وجدت؟ أسئلة كثيرة يتعين على كل تلك الجهات تقديم إجابات وافية وعلنية عنها فأرواح الناس ليست مستباحة للفوضى والفساد والفشل.

ما حصل ليس مصابا نتخذ الله حسبنا بشأنه، بل كارثة بكل المعايير وما حوّله من مصاب لكارثة هو التراخي والإهمال البشري وليس الفعل الإلهي

ما حصل لا يمكن تبريره بعبارة (قضاء الله وقدره).. فقضاء الله بوقوع الزلزال ماض رغم إرادة البشر لكن القدر يتدخل الفعل الإنساني في التلطف والتلطيف من نتائجه عند الأخذ بأسباب الحماية ومراعاة شروط ومعايير السلامة.. فلا يمكنك السير بسرعة 150 كم بالساعة بسيارة متهالكة لم تقم أنت بفحص سلامة محركها ومكابحها وعجلاتها قبل الانطلاق بها معتمدا على لطف الله فحسب، بل لا بد أن تتخذ من أسباب الحيطة ما يجعلك مطمئنا وأنت تقود تلك السيارة التي قمت بواجب فحص كل ما ذكرناه قبل الانطلاق أصلا ثم تجعل نفسك برعاية الله بعدها.. فما حصل ليس مصابا نتخذ الله حسبنا بشأنه، بل كارثة بكل المعايير وما حوّله من مصاب لكارثة هو التراخي والإهمال البشري وليس الفعل الإلهي، وهذا التراخي والإهمال سيتكرس نهجا ما لم تتم المساءلة والمحاسبة عنه.

اليوم نحن مطالبون أن نكون أمام مسؤولياتنا وأن تكون هناك مراجعات جدية وبالعمق لكل تلك الفوضى التي تدار بها حياة الناس في مناطق الشمال السوري، وإعادة وضع الأمور في نصابها الصحيح وعلى كل المستويات الإدارية منها والقضائية والتعليمية وإدارة الموارد لتنظيم شؤون الناس وتحديد المسؤوليات، وإلا فنحن ذاهبون لا محالة إلى قعر القاع الذي لا أمل بعد ذلك بالخروج منه.