ليس لدى بوتين من يكاتبه 

2021.03.18 | 06:07 دمشق

1046375205_0_141_3004_1767_1000x541_80_0_0_de46b5a4d415e9468be8282a01142eff.jpg
+A
حجم الخط
-A

تبحث روسيا عن استثمار نتائج تدخلها العسكري في سوريا بأوجه مختلفة، وتحاول ترجمة ذلك على أرض الواقع من خلال ترميم المشهد السوري ببعض المساحيق التجميلية. إذا صحّت الأخبار القائلة بأنّ بعض دول الخليج كانت مساهمة في إقناع الروس بالتدخّل عسكرياً بعد الحصول على الموافقة الأميركية، فإنّ من شأن ذلك أن يوضّح جزءاً من التركيبة المعقّدة للوضع الراهن في هذا المشرق المضطرب. يأتي استشعار الروس لخطر الانزلاق في المستنقع السوري كما كان وضع السوفييت في أفغانستان، نتيجة بدهيّة لعدم قدرتهم على حسم المعركة واستعادة كامل الأراضي التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد من جهة أولى، ولعدم قدرتهم على تشغيل مؤسسات الدولة السورية، التي كان منع انهيارها هو العنوان الأبرز لتدخّلهم الدموي من جهة ثانية، ولعدم قدرتهم على إعادة إعمار ما ساهموا بتدميرهم بهمجيّتهم المعهودة من جهة ثالثة. وفق هذه الخلفية يمكن قراءة المنصّة الثلاثية الجديدة التي توافق الروس والأتراك على إطلاقها مع مضيفيهم من العاصمة القطرية الدوحة، وهي بوّابة صريحة لمغازلة السعوديين بقضايا تهمّهم جداً هذه الأيام. 

تحاول روسيا استثمار حالة الضغط الأميركي على دول الخليج لإنهاء الحرب اليمنية، وتحاول أن تلعب دور الحليف الممكن الاعتماد عليه والذي لا يتخلى عن حلفائه كما الأميركيين. هناك فراغٌ تكتيكي في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية، يتسبب به تغيّر الإدارات بين الجمهوريين والديمقراطيين، ويظنّ الروس أنّهم قادرون على ملئه جزئياً ومن ثمّ البناء عليه لعقد شراكات وتحالفات استراتيجية بعيدة المدى. 

تحاول روسيا استثمار حالة الضغط الأميركي على دول الخليج لإنهاء الحرب اليمنية، وتحاول أن تلعب دور الحليف الممكن الاعتماد عليه والذي لا يتخلى عن حلفائه كما الأميركيين. هناك فراغٌ تكتيكي في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية، يتسبب به تغيّر الإدارات بين الجمهوريين والديمقراطيين، ويظنّ الروس أنّهم قادرون على ملئه جزئياً ومن ثمّ البناء عليه لعقد شراكات وتحالفات استراتيجية بعيدة المدى. 

ستعرض روسيا خدماتها الاستخباراتية وإمداداتها للملكة العربية السعودية بالأسلحة لمواجهة خطر التمدد الإيراني عبر مسيّرات الحوثيين. يدرك الروس مدى امتعاض الأتراك من سياسة الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الملف الكردي والدعم الكبير الذي تقدّمه لخصومها أو أعدائها اللدودين هناك، لهذا سيعملون على رفع مستوى التحالف مع الأتراك من جهة، وعلى مدّه باتجاه شمال شرق سوريا لممارسة مزيد من الضغط على الإدارة الذاتية هناك. 

يدرك القطريّون أنّ حلفاءهم الأتراك قد هزموا الروس مرتين في معركة المسيّرات، واحدة في إدلب والثانية في أذربيجان، لذلك كان الحليف التركي حاضراً على الطاولة وبثقلٍ كبير، مما سيشكّل منقذاً للسعودية من خطر ما زال يتفاقم يوماً بعد يوم. يسعى القطريّون بدورهم أيضاً إلى ترميم العلاقة بين السعوديين والأتراك، وهم ذوو باع طويل في ممارسة دور الوساطة الحميدة بين الأطراف المتنازعة. لقد حافظت الدوحة على علاقات متوازنة مع جميع الفاعلين الدوليين والإقليميين في الشأن السوري، كما في غيره من الشؤون العالقة الأخرى، فرغم الحصار الذي تعرّضت له من دول الجوار القريب إضافة لمصر، إلا أنها استطاعت أن تكون حاضرة على الساحة الدولية، بل إنّ الحصار أفادها كثيراً في خلق بدائل قويّة للعلاقة مع دول الجوار العربي، وأبرز هذه البدائل كان الحلف الاستراتيجي مع الدولة التركية. احتفظت قطر بملفات معقدة وشائكة في نفس الوقت ونجحت في إدارتها، بدءاً من ملف حماس والجهاد وانتقالاً للعلاقة مع إيران وتوابعها مثل حزب الله، وصولاً إلى ملف المفاوضات مع طالبان الذي يعتبر من أهمّ الملفات الدولية التي ترعاها. أثبتت قطر خلال أزمة الحصار أنها قادرة على البقاء والتأقلم، وهذا جعلها لاعباً هامّاً لا يمكن تجاهله.  

على الضفّة التركية نجد أنّ الشهية لتوسعة المجال الحيوي للأمن القومي مفتوحة، وهي تتقاطع جزئياً مع الأمن القومي العربي خاصّة لناحية العدوّ / المنافس الإيراني. من هنا نجد التقارب التركي المصري ضرورة للجانبين. سيجعل هذا الأمر مصر أكثر قوّة في مواجهة الضغوط الغربية بملف حقوق الإنسان، وسيجعل تركيا أكثر قرباً من منابع الطاقة والغاز في البحر الأبيض المتوسط. تدرك تركيا أنّ صراع الحدود البحرية كبيرٌ جداً مع الأوروبيين، وأنها بتنازلها في معاهدة لوزان قبل قرن من الآن، عن أية مطالبات في ليبيا ومصر قد خسرت ورقة هامّة في مجال ترسيم الحدود، فالجزر التي أخذتها منها إيطاليا ثمّ تنازلت عنها لليونان حرمت تركيا من الحيد البحري الذي يتناسب مع حجمها ومكانتها وحتى مع تاريخها الإمبراطوري أمام السلطنة العثمانية. لذلك سيكون من المفيد لها إعادة بناء العلاقة مع النظام المصري ولو على مضض، كما سيكون من مصلحة المصريين التعاون مع الأتراك لاقتسام الكعكة بدل الخصام وذهابها كاملة للأوروبيين. 

لا يمكن تجاهل إسرائيل وعلاقتها الشائكة مع هذه الأطراف جميعها، فهي بلا شك ستدخل من باب المساعدة في مواجهة إيران واستفزازات الحوثي والميليشيات العراقية، كذلك ستقدّم أوراق اعتمادها عبر الإمارات لمحاربة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية، وهي بذلك تقدّم نفسها ومصالحها في تقاطع مع المصالح السعودية والإماراتية والمصرية بشكل كبير. هنا لا بدّ من الإشارة إلى التوتر بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن، وحاجة الأول لانتصارات من أي نوع لاستثمارها في انتخاباته البرلمانية القادمة، وإلا واجه السجن هو وعائلته، بينما يرى الثاني أنّ إدارته هي من يرسم شكل العلاقة الثنائية لا حكومة إسرائيل ولا رئيسها المثقل بالمشاكل. قد يجد الروس لهذا الأمر منفذاً من خلال علاقة ثلاثية تجمعهم بالإماراتيين والإسرائيليين في قادم الأيام أيضاً. 

يسعى الروس إلى حلّ المعضلة السورية بما يضمن مصالحهم الاستراتيجية التي تدخّلوا من أجلها. إنّ أي حرب لا تنتهي بمكاسب سياسية وبالتالي اقتصادية هي حرب خاسرة. لكنّ الثمن الذي تطلبه السعودية مقابل الدعم المالي للروس هو إخراج إيران من سوريا بشكل فعلي ونهائي، وأغلب الظنّ أنّ الروس وحدهم غير قادرين على القيام بذلك. وبالنسبة لقطر يجب أن يكون ثمن الدعم تطبيع العلاقات مع دول الخليج بشكل كامل، وهذا أيضاً ليس بمقدور الروس تقديم شيء ذي قيمة فيه. أمّا الإمارات التي حاولت أن تخرق الحصار المفروض على نظام الأسد مراراً، فوجدت نفسها في مواجهة موقف حاسم من قبل الإدارة الأميركية فيما يخصّ العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر، وهنا لا يمكن للروس أن يقدّموا لها شيئاً، فهم ذاتهم موضوعون على قائمة العقوبات الأميركية. 

لا تعتبر النجاحات التي تحققها روسيا في ملفات صغيرة مثل إعادة رفاة جنود إسرائيليين، أو ساعة الجاسوس كوهين، أو تقديم لقاحات كورونا لنظام المقاومة من عدوّه المُعلن، سوى انتصارات هزيلة لا قيمة لها في اعتبارات الدول والمصالح المتضاربة. ليس من شأن هذه الحركات البهلوانية سوى تأكيد تبعيّة الأسد ونظامه لحاكم الكرملين، لكنّها مسائل لا تُسمن ولا تغني من جوع. 

سيحاول الروس خلق منصّات كثيرة للقفز على الاستحقاقات الكبيرة التي يتعامون عنها، فهم لا يريدون رؤية الفيل القابع في الغرفة، وبدون انتقال سياسي حقيقي لن يكون هناك أي دعم أميركي أو أوروبي، ولن يكون بمقدور العرب – ولو رغبوا بذلك – أن يقدّموا أي شيء بهذا الخصوص. 

تكمن معضلة الروس في إدراكهم أنّ أيّ انتقال سياسي حقيقي قد يورّطهم بالتعامل مستقبلاً مع إرادة شعبية حقيقية لم تنسَ ولن تنسى جرائمهم. سيبقى الروس على حالهم هذا، وسيبقى الجنرال بوتين في عزلته يبحث عمّن يكاتبه، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ما لم يغيّر من عقليته المتخشّبة عند حدود إمبراطوريّة أفلت ولن تعود. 

تكمن معضلة الروس في إدراكهم أنّ أيّ انتقال سياسي حقيقي قد يورّطهم بالتعامل مستقبلاً مع إرادة شعبية حقيقية لم تنسَ ولن تنسى جرائمهم. سيبقى الروس على حالهم هذا، وسيبقى الجنرال بوتين في عزلته يبحث عمّن يكاتبه، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ما لم يغيّر من عقليته المتخشّبة عند حدود إمبراطوريّة أفلت ولن تعود.