ليس دفاعاً عن المعارضة السورية!

2022.03.14 | 05:07 دمشق

f555b3a8-5a6b-43e6-bb0d-3d3fd20c217d.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يهدأ غضب السوريين، وخاصة مناهضي النظام منهم، على معارضتهم السياسية الرسمية. غير أن دقيقة ونصفاً من المقابلة المصورة التي أجرتها صحيفة «القبس» الكويتية مع الشيخ حمد بن جاسم كانت كفيلة بتأجيجه من جديد. وكما بات معروفاً فقد وصف رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري السابق، في هذا المقطع الذي لقي رواجاً واسعاً، المعارضة السورية بأنها «سلَطة»، وقال إنها «مخترقة من قبل النظام».

أصوات نادرة تذمرت من هذين الوصفين. وكانت لرموز من المعارضة في المدة التي عايشها الوزير قبل أن يغادر منصبيه في منتصف 2013، وعبر وسائل واهنة هي حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. أما جمهور الثورة فلم يكتفِ بهاتين الكلمتين لتصعيد غضبه المتنامي باستمرار بل زاود عليهما. فإن قلتَ إن «المعارضة السورية سلَطة» انبرى لك أحد أفراده ليسأل: ومتى كانوا معارضة؟! وهبّ آخر: ومن قال إنهم سوريون؟! وتفنن ثالث بالتذكير بأن السلَطة صحية ومفيدة في نهاية المطاف، في حين لم نر من هؤلاء إلا الضرر!!

لا أحد يدافع عن أي فريسة راهنة إلا حفنة من أصحابها وموظفيها وأصدقائها. فإن سيقت ضحية أخرى إلى الرجم شارك الجميع من جديد

هذا جزء بات معتاداً من مزاج ساخط يسود بين النازحين في المناطق المحررة، والمهجرين إلى البلدان المجاورة، واللاجئين في المنافي. يعمِّم هذا الرفض نطاق أحكامه الجلادة لتشمل الجميع؛ المعارضة السياسية، إسلامية كانت أم علمانية، والفصائل العسكرية، سواء أكانت من الجيش الحر/ الوطني أو جهادية أو ما بينهما، والسلطات المحلية، وإدارات المخيمات، والجمعيات الإغاثية. في حملات هدم لا تبقي ولا تذر، لا تعذر ولا تتفهم.

يشارك الجميع في هذا، تقريباً، إلى درجة أن لا أحد يدافع عن أي فريسة راهنة إلا حفنة من أصحابها وموظفيها وأصدقائها. فإن سيقت ضحية أخرى إلى الرجم شارك الجميع من جديد. فكلهم ثور أبيض تبدأ به الوليمة وثور أسود لا تنتهي بجثته مقصلتها الطاحنة التي تتحرك كعاصفة هوجاء تريد أن تجهز على الأخضر واليابس.

لا يعني هذا أن حالات العمالة والفساد والعصبيات والمحسوبيات والطغيان والطيش ونقص الكفاءة غير موجودة. لكنه يعني ضرورة تقدير هذه الظواهر بحسب حجم وجودها الفعلي، وبعد التثبت كما يقتضي الحال. أما التعميم، والمزاودة في قتامة المشهد، فلا يعينان على أي فهم، فضلاً عن الإصلاح إن وُجدت الرغبة. ناهيك عن أنهما تقويض عملي لشرعية الثورة، أو فصل مثالي خيالي بين قيامها لأهداف نبيلة معلّقة في الفراغ وبين تجليها في هذا الطاقم الشامل من الأوغاد في شتى المجالات!

من السهل أن نقدّر أن سبب تفشي هذه الحالة «اللوامة»، للآخرين لا للذات، هو الاختناق الذي تعانيه القضية السورية وأهلها اليوم؛ في الداخل/ الدواخل المتعددة في أربع دويلات متناحرة، وفي الخارج. ومن المفهوم أن العدمية حل مريح في مواجهة مشهد معقد يستعصي فهمه على العموم وأفق يبدو مسدوداً. لكن من غير المقبول أن يغلق القنوط الرؤية في حالة نخب لم تدفع، في الغالب، ثمناً باهظاً لانحيازاتها المُعارِضة، وهي تعيش في ظروف معقولة بالمقارنة مع معظم السكان المنكوبين. ولذلك فهي تستطيع التفكير بروية إن لم ترغب أن تزاود بطريقة شعبوية على الشعب، وتسلك الطريق الآمن في الدندنة على آلامه وتنغيم جراحه، متخلية عن الدور التحليلي المطلوب من المثقف إلى وظيفة «الرادود» النائحة والناطقة باسم الجماعة الباكية ندماً.

يجب أن يعي هؤلاء أن التشاؤم لم يعد ميزة، مثلما لم يعد التفاؤل بائعُ الأوهام مقنعاً منذ زمن بعيد. وأن هذه البلاد لن تقيم في استعصاء حالها إلى الأبد. وأنها، حين تَخرُج منه أو تُخرَج، ستكون بحاجة إلى رؤية. وأن بناءها من جديد يتطلب فاعلين لم يأكل قلوبهم السواد وعقولهم الضياع ونفوسهم اليأس.

اجتمع هؤلاء على عجل، بخلفيات ثقافية ومهنية مختلفة، فجرّب كل منهم ما يتقنه من معارف حصّلها في مسيرته الشخصية، مع ارتفاع حاد في الأنا

كي نكون مستعدين هذه المرة علينا العمل منذ الآن. وبالعودة إلى تجربة المعارضة السياسية ربما يمكن أن نستخلص أن أبرز عيوبها كان فقدان رجال الدولة وغياب الأهلية وعدم الاستعداد. فقد تكونت من معارضين مقيمين في الخارج لم يكن يخطر في بال أغلبهم أن يكون في موقع المسؤولية العامة يوماً ما، ومن معتقلين سياسيين سابقين ليسوا أكثر خبرة، ومن عابري سبيل رفعتهم الأزمنة المضطربة كما تفعل عادة. اجتمع هؤلاء على عجل، بخلفيات ثقافية ومهنية مختلفة، فجرّب كل منهم ما يتقنه من معارف حصّلها في مسيرته الشخصية، مع ارتفاع حاد في الأنا، فنتجت عن ذلك هذه «السلَطة» التي لا تملك من الأهمية والأسرار ما يجعلها هدفاً مغرياً لفعالية تجسس كبيرة في الحقيقة. وفي حين كانت مسارات هذه المعارضة تزداد بعداً عن العمليات العسكرية كان النظام يرى في هذه الأخيرة ميدان المعركة الحقيقية ومحور التركيز، فرصّ صفوف مؤيديه، وأدخل ميليشيات طائفية من الخارج، ثم استعان بالترسانة العسكرية الضخمة لدولة عظمى سابقة هي روسيا. وبذلك استطاع تحقيق «انتصاره» الركيك المعرّض للانهيار في أي وقت.

ومن غير المرجح أن مسار ما جرى كان سيتغير جذرياً لو أن معارضتنا السياسية أفضل. ربما كانت ستحوز شرعية أعلى واحتراماً أكبر داخلياً وخارجياً، وهذا مطلوب طبعاً، غير أن ما نحن فيه من هزيمة ليس مسؤوليتها وحدها، بل مسؤوليتنا جميعاً، ومسؤولية غيرنا كذلك.