ليس خذلانا بل خيانة

2023.02.19 | 06:38 دمشق

الأمم المتحدة
+A
حجم الخط
-A

لم تكن عبارة "شكراً لخذلالنا" التي خطها السوريون في الشمال الغربي لسوريا على الأنقاض التي خلفها الزلزال الكارثي إلا تلخيصاً مكثفاً لما عانوه خلال اثني عشر عاماً مع الأمم المتحدة، وتكثيفاً لمدى فشلها في الاستجابة والتعامل مع الأحداث التي تهدد مصير السوريين، سواء كانت نتيجة فعل النظام الأسدي الوحشي، الذي لم يوفر وسيلة قتل إلا وجرّبها بأجساد السوريين وسط "الإدانات" الدولية، أو طبيعية مثل الزلزال الذي حدث مؤخراً في جنوبي تركيا وشمالي سوريا وغربها، وأسفر عن مقتل الآلاف وتدمير آلاف البيوت وتشريد عشرات الآلاف من جديد وسط الظروف الطبيعية القاسية.

عند النظر إلى تركيا، الدولة ذات المقدرات الكبيرة، إضافة للمساعدات الدولية التي قدمتها نحو 90 دولة، حيث يقترب عدد الضحايا من 40 ألف إنسان، ناهيك عن آلاف المنازل المدمرة وعدد المشردين، يظهر أن ما حلّ بالناس في سوريا أكثر من كارثي، فغياب المؤسسات الفاعلة وندرة الموارد والآليات والخبرات اللازمة للتعامل مع الكارثة، ومع ذلك، بقي تعامل الأمم المتحدة يخضع للمساومات والمصالح السياسية للدول الداعمة للنظام، وخاصة روسيا، وهو ما وفر غطاءً لخذلان الدول لسكان الشمال وتركهم يتعاملون بمفردهم مع هذه الكارثة، على الأقل في الأيام الثلاثة الأولى منها، ومن جهة ثانية، تشجيعها على التعامل مع نظام الإبادة الأسدي، الذي قتل، حسب إحصائيات الأمم المتحدة نفسها، 100 ضعف ما قتله الزلزال.

ولتوضيح ما خبره السوريون جيداً من تعامل المجتمع الدولي خلال سنواتهم الاثنتي عشرة، هناك مثالان مهمان، عدا الفعلة الشنيعة مؤخراً، وهي التعامل مع الزلزال، وأول تلك الأمثلة، ردة الفعل على الهجوم الكيمياوي الذي وقع في نيسان 2018، ورغم الأدلة التي وفرتها الأقمار الصناعية وقتها والتي تؤكد على مسؤولية النظام عنها، إلا أن إعداد التقرير من منظمة الأسلحة الكيماوية استغرق خمسة أعوام فقط، حيث صدر مؤخراً في 27 كانون الثاني 2023، والحدث الثاني، عندما شنّ النظام وروسيا هجومهم على ريف حماة وإدلب في بداية 2020، الهجوم الذي أسفر عن تهجير ما يقرب من مليون إنسان،  حيث غامر بعض منهم في الدخول إلى تركيا بغاية السفر إلى أوروبا، لم يصدر عن الاتحاد الأوروبي أي موقف جدي سوى الإدانة، بينما قدّم لليونان مبلغاً كبيراً يقترب من المليار دولار مع القوة اللازمة لمنع السوريين من العبور نحو دوله.

وعند التدقيق بما قدمته الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي للسوريين في أكثر المناطق تضرراً، لا تكاد ترقى إلى مستوى التعامل مع حدث صغير كتهدم بناء أو حريق فيه، فلا فرق طوارئ (عدا أطباء أسبان)، ولا آليات ثقيلة، وغيرها من المعدات الضرورية، وينطبق الأمر نفسه على منظمات الأمم المتحدة التي أدخلت مساعدات مجدولة حسب ما ورد، والذريعة التي تختبئ وراءها تلك الدول أو المنظمات، هي العقوبات الدولية والأميركية، رغم أن المساعدات الإنسانية مستثناة بشكل واضح، ولا تتعارض تماماً حتى مع العقوبات المفروضة بموجب القوانين الدولية، وهو ما يكشف غياب الإرادة في تقديم المساعدة لهؤلاء الناس في الشمال، والفشل الذريع من الأمم المتحدة وخضوعها لابتزاز ومصالح دولية مناهضة لهؤلاء البشر.

الأمر الأكثر خسّة هو زيارة السيد غريفث، رئيس هيئة الإغاثة في الأمم المتحدة إلى دمشق ليخرج بنصر تاريخي لصالح السوريين، وهو سماح الطاغية بفتح معبرين إضافيين لدخول المساعدات

وتدرك الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات والمنظمات أن ثمن ذلك الرضوخ والفشل هو مزيد من الضحايا، لكن الأمر الأكثر خسّة هو زيارة السيد غريفث، رئيس هيئة الإغاثة في الأمم المتحدة إلى دمشق ليخرج بنصر تاريخي لصالح السوريين، وهو سماح الطاغية بفتح معبرين إضافيين لدخول المساعدات، في الوقت الذي يعرف غريفث وغيره من المسؤولين الدوليين أن نظام الأسد لا سيطرة له بالكامل على هذه المعابر، فبدلاً من أن تلجأ الدول والأمم المتحدة إلى تقديم المساعدات الفورية عبر هذه المعابر مباشرة أو حتى رمي المساعدات بالمظلات فوق تلك المناطق، فضلت أسوأ خيار، وهو اللجوء إلى نظام الأسد لأخذ الموافقة!

وفرّ هذا الخيار البائس للأمم المتحدة الغطاء لكثير من الدول على التعامل مع النظام كجهة شرعية لتلقي المساعدات، التي أتت من أكثر من عشرين دولة بما فيها من أوروبا، لكن نصيبها كان البيع على أرصفة المدن، ولا ندري إن رآها المبعوث الدولي غريفث. وفي الوقت الذي لم يعترف النظام بالمناطق الأكثر تضرراً في الشمال الغربي كمناطق منكوبة، بل قام مؤخراً بقصفها، مجبراً البشر على العيش في ظروف مرعبة بين الخوف من الزلزال ورعب القصف، عمل جاهداً على استغلال حالة الدمار والصور المؤلمة للبشر التي أحدثها الزلزال بغاية رفع العقوبات المفروضة عليه، وتحقيق التطبيع مع نظامه البغيض.

أمام هذا الخذلان الدولي في تقديم المساعدة الدولية، أظهر الناس في شمال سوريا جهوداً بطولية تمثلت بما قامت به الخوذ البيضاء بعتادها البسيط ورجالها ونسائها الأبطال ترقى إلى المعجزات، ومن ناحية أخرى كانت حالات التضامن الشعبي الذي عبر عنه الأفراد والعشائر خير مثال للتضامن بين السوريين، حيث بالمقارنة مع ما قدمته العشائر يفوق ما قدمته الأمم المتحدة، لدرجة ألهمت بعض السوريين بمفارقة كبيرة أن يقوموا بفتح باب التبرع للأمم المتحدة، في إشارة إلى عجزها وفشلها ورضوخها للابتزاز السياسي أمام كارثة كهذه.

أظهر الناس في شمال سوريا جهوداً بطولية تمثلت بما قامت به الخوذ البيضاء بعتادها البسيط ورجالها ونسائها الأبطال ترقى إلى المعجزات

لم يعد سراً أمر العقود والصفقات التي تبرمها الأمم المتحدة مع منظمات يرعاها النظام الأسدي، سواء الأمانة السورية للتنمية تحت إشراف أسماء، شريكة الديكتاتور، التي تجبر جميع المنظمات إلى الحصول على موافقة منها، أو حتى الهلال الأحمر السوري الخاضع لسيطرة المخابرات الجوية، ناهيك عن التلاعب بسعر الصرف وما يحققه من سرقات.

وردّ السوريين في المناطق المتضررة، من الزلزال مؤخراً، ومن قصف النظام الأسدي، كان واضحاً لغريفث عندما زار المنطقة: أنتم خذلتونا.

لم يعد اعتراف غريفث بحالة الخذلان والتخلي عن السوريين في هذه المناطق، فما هو مطلوب من الأمم المتحدة العمل على فرض قانون يمهد لإنهاء هيمنة النظام الأسدي والانتقال لنظام حكم ديمقراطي بكل الوسائل المتاحة، خاصة أن الغرب لم يأخذ الموافقة من روسيا على تقديم السلاح لأوكرانيا، وغير ذلك، يغدو موقف الأمم المتحدة: الخيانة وليس الخذلان.