ليست الحرب بل هي الجريمة

2022.05.12 | 07:08 دمشق

مجزرة التضامن
+A
حجم الخط
-A

يستدعي استخدام مقولة "إنها الحرب" في الحديث عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية مراجعة وتدقيقاً، في إمكانية أن تتحول إلى معطفٍ، يحلو للبعض أن يحشو تحته ما يريد، وفي أي وقت يريد!

كما أنها تقود للبحث في خلفيات من يرى أنها كإطار تصلح للحديث عن كل ما جرى ويجري في حرب بلا ملامح، بينما هي في الواقع حرب النظام على الثائرين ضده.

لقد وضعت البشرية القواعد والقوانين والاتفاقيات والشرائع الدولية الأساسية من عتبة ملحة، هي تجنيب البشر وقوع الظلم عليهم، وتفضيل الحلول السلمية، ومنع أي جهة، من أن تستخدم القوة من أجل تنفيذ خططها.

كل ما حرر في هذا الاتجاه، لم يكن أعور، بل كان يبصر إمكانية حدوث خرق لكل ما تتفق عليه الأمم والحكومات والقيادات، ولهذا تم وضع الروادع، ليس للظروف العادية فقط، بل حتى للأوقات الاستثنائية، إذ لا يمكن اعتبار المعارك فرصة مرخصة، لعودة البشر إلى الحالة البهيمية، وترك الجنود يتحاربون كما لو أنهم حيوانات في غابة!

لا يحتاج المرء لأن يكون حقوقياً لكي يميز، فالمبادئ العامة والشرائع التي تتكرر يومياً في حياتنا، تجعل أي شخص يدرك بأن وقوع الحرب لا يعني الانفلات على البشر

لا يحتاج المرء لأن يكون حقوقياً لكي يميز، فالمبادئ العامة والشرائع التي تتكرر يومياً في حياتنا، تجعل أي شخص يدرك بأن وقوع الحرب لا يعني الانفلات على البشر، وارتكاب الجرائم بحقهم، خاصة إن كانوا غير مشاركين فيها، ولا يحملون السلاح، وأن على القادة أن يمنعوا حصول مثل هذه الحوادث، وإلا كان من الواجب على دول العالم أن تتدخل لمنع وقوع هذا، وسوق من ارتكبوا المجازر إلى المحكمة الجنائية الدولية، طالما أننا لا نستطيع محاسبتهم في المحاكم الوطنية.

أتحدث هنا عن السياق العام، ولكن ما أريد الوصول إليه، هو أمرٌ سوري، يتعلق بقراءة متقاعسة كسولة للمقولة المذكورة أعلاه، لا تريد أن تبذل جهداً لترى خطورة استخدامها، وهنا نحاول فهم الأمر من بوابة النوايا الحسنة، فلا نجرم أصحابها، طالما أنهم لا يدفعون باتجاه حماية جهة ما.

وأيضاً يتصل بقراءة خبيثة، تستخدم هذه العبارة وغيرها، لتبرر صمتها عما حدث ويحدث، ولكي تخفي سعيها الحثيث إلى دعم النظام الأسدي، إما عبر الإنكار وهذا ما يفعله مثقفوه دائماً، وإما عبر توزيع الجريمة عليه وعلى غيره، فعندما تذكر جرائم القتل المرتكبة على يد جنوده وعناصره، سرعان ما ترد عبارة تسأل: وهل هو القاتل الوحيد؟ وكذلك القول: "الكل مثل بعضهم" كأن تعميم الأفعال الخسيسة على كل الجهات المتورطة في الحدث، يعفيها من تبعات ما فعلت، ويمنع محاسبتها!

لا يمكن للعبارات، ولا حتى لأهم المقولات، أن تعفي مجرماً من جرمه، لأنها مجرد تفسير، وليست قاعدة حقوقية، وهي فعلياً أقوال لا تمتلك سلطة على البشر وحقوقهم، فإذا وقعت جريمة ما، لا يمكن لعبارة مثل "إنها الفوضى" أو "لقد غاب القانون" أن تبرر لمرتكب من أتى به!

وأيضاً يمكن ملاحظة أن مثل هذه العبارات، تتناسى حقوق الضحايا، الذين يغيبون، ولا يظهرون حتى بين الحروف أو السطور! وقبل هذا كله، ألا يُلاحظ أن تكوين عبارات كهذه يقوم بالتعمية على التفاصيل؟

أليس من الواجب تحديد من القاتل ومن المقتول، وترك البحث في أسباب وقوع الجرائم لعلماء الاجتماع والباحثين النفسيين؟!

ينطبق ما سبق على عبارة "إنها الحرب"، والتي استخدمها بعض مثقفي النظام، بعد انفضاح جريمة واحدة من مئات وآلاف الجرائم التي ارتكبها جنوده وعناصره الأمنيين، بحق السوريين!

العبارة هذه، تشبه كيساً مطاطياً، يريد هؤلاء "الجهابذة" منا أن نقر بها، لتكون مبرراً لجرائم هائلة، إذ يمكن من خلالها تبرير التهجير، والتدمير، ودفع المدنيين لتلمس الأمان في أي مكان، بينما كان واجب الدولة حمايتهم، وليس قتلهم بأبشع الطرق، بحجة كونهم بيئة حاضنة، أو يعيشون في منطقة تحت حكم المسلحين أو الإرهابيين! ومن خلالها أيضاً يكون من المطلوب التسامح مع أفعال الإبادة التي جرت في سجون النظام، وعلى حواجز عناصره في الطرقات، وغير ذلك!

يقول هؤلاء بعبارة شبه صريحة: لا يجب أن يعترض أحدٌ على ما حدث، لأنها الحرب!

لا، إنها ليست الحرب، بل إنها الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وفق نمطية محددة، يظهر فيها دائماً جنود أو رجال أمن أو أشخاص مؤيدون للأسد، يقتلون مدنيين

لا، إنها ليست الحرب، بل إنها الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وفق نمطية محددة، يظهر فيها دائماً جنود أو رجال أمن أو أشخاص مؤيدون للأسد، يقتلون مدنيين، أو عسكريين، لا يهددونهم في لحظة وقوع الجريمة، بل كانوا موقوفين! أي أن الضحايا، قتلوا دون وجود أي مبرر!

لن نتحدث هنا عن طقوس القتل، فهذا بحث آخر، لكن وجود نمط عام من الأداء الذي يتكرر في مثل اللحظات، لا يمكن تفسيره من زاوية تقول بفردية هذه الأفعال، إنها أفعال مبرمجة، ومقررة، ومتفق عليها، وتحدث تحت عيون القادة، الذين يشاركون أحياناً في ارتكابها!

كل الجرائم التي وقعت في سوريا، وبما فيها قتل الأسرى من جنود النظام، وكذلك اختطاف وقتل المدنيين المؤيدين، أو الذين تم أخذهم على الشبهة في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة، أياً كانت، يجب أن تتم قراءتها من زاوية الإدانة، والبحث فيها، ومتابعة مرتكبيها، وتوقيفهم ومحاسبتهم، وأي تبرير "متفذلك" في هذا السياق، لا يستحق فقط الإدانة، بل التجريم أيضاً، لأن هذا يدخل في باب التحريض على معاودة الفعل وتكراره.

عادة ما يُسجل المثقفون في زمن الحروب والويلات شهادات موجعة عما جرى ويجري، يدينون من خلالها بشكل صريح، أو بشكل غير مباشر، الجرائم المرتكبة فيها، ويؤشرون لمن فعلها، إلا في سوريا، فهنا في هذا الفضاء الدموي، تم توليد كينونة المثقف الحربي الإجرامية، الذي لا يكتف بتبرير جرائم القتلة، بل لديه اندفاع كبير لأن يحمل سلاحاً ويشارك في الإبادة!