لن يلدغ اللبنانيون من جحر مرتين.. الخبث الأميركي-الإيراني

2019.11.13 | 17:30 دمشق

bay.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يريد الشعب اللبناني في انتفاضته على السلطة الحاكمة، مجموعة دولية من الأصدقاء. ذاق اللبنانيون لوعة أشقائهم السوريين الذين لُدغوا من أفاعي صديقة، كانت تقدّم حسن مظهرها ونعومة ملمسها. كان هؤلاء يسمون أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري". ما يشهده لبنان، هو المسار المنطقي والطبيعي للتاريخ، الذي يسير للأمام، ويرفض أن يستمر دائرياً في حلقة مفرغة على قاعدة "التاريخ يعيد نفسه". غالباً الأنظمة هي التي تسعى إلى تكريس منطق التاريخ يعيد نفسه، لأهداف متعددة، على رأسها تخويف الناس من سلوك مسارها الطبيعي والتطوري والتقدمي. فيلجأ الحكام إلى سحر مقولتهم وتأثيرها بتخويف الناس من التقدم، لأن النتيجة ستكون محتمة، وهي أن التاريخ سيعيد نفسه وستتكرر نفس المآسي.

إصرار السلطات على إصدار الأحكام المسبقة، ينطلق من جشع في السلطة، والبحث عن تأبيد وجودهم فيها، بحيث لا ينافسهم عليها أحد، وهذه السياسة تتكامل مع مسوّغات أخرى من قبيل إلهاء الناس بلقمة عيشهم، أو تخويفهم من الدماء والشتات والتهجير، وبعث الرعب في قلوبهم. وعليه تعيش السلطات في حقبات القرون الوسطى وما قبلها من حقبات دموية، ولا تزال تلتزم بهذا النمط التفكيري ذاته، من دون إحراز أي تقدّم، ظنّاً منها أن الناس لا تزال أيضاً تلتزم هذه الغياهب.

والحقيقة أصبحت في مكان آخر، هو أن الناس قد سبقت السلطات المولّاة عليها بأشواط، وهذا ما يتجسد في الساحات اللبنانية عبر تخطّي كل مذهبية وطائفية ومناطقية، لصالح الوقوف على كلمة واحدة وهي التحرر من نير نظام طائفي مستبد وفاسد أمعن تفريقاً واستغلالاً للمواطنين. صحيح أن السلطة تراهن على شرذمة المتظاهرين وعدم اتفاقهم على مطالب واحدة، ولكن ذلك يبقى عبارة عن قصر نظر لحقيقة ما يجري، ومحاولة تضييق المنظار لهذا الزلزال الذي هزّ أركان التركيبة برمّتها، وهنا يبرز الدليل على تأخر السلطة وأركانها، من خلال الرهان على تشظي المتظاهرين وتفريقهم وتقسيمهم، انطلاقاً من مبدأ أنهم أصحاب أهداف متعددة وطروحات متنوعة ومختلفة. الأمر يبقى وفق حسابات السلطة الضيقة على قاعدة الربح والخسارة، والمكاسب والمناصب.

بينما حقيقة الانتفاضة في مكان آخر، وأكثر ما يعبر عنها هو هذا التنوع بالطروحات والمطالب، التي لم تمنع الساحات تعددها وتناقضها حتّى، ما يجب أن يكون دليلاً أخطر على السلطة، لأن الناس على اختلافاتها انتفضت وبحاجة إلى الصراخ بعد

انتفاضة اللبنانيين وصرخاتهم وخروجهم من زجاجات ضغطوا فيها على مر السنوات الفائتة، هي استكمال لصرخات الشباب العربي من المحيط إلى خليجه

اختناق طويل، هذه الصرخات لا يمكن كبتها بحسابات سياسية أو إعادة توزيع للمغانم السياسية في أي دولة. وحتى وإن تمكنت السلطة على اختلافات أركانها من إجهاض هذه الانتفاضة، إلا أن ما جرى قد كسر حواجز كثيرة، ولا عودة بعده إلى الوراء، وهو بالتأكيد يؤسس إلى مرحلة لاحقة لجني الثمار إن لم يحن أوانها حالياً.

وفق هذا المسار التطوري، فإن انتفاضة اللبنانيين وصرخاتهم وخروجهم من زجاجات ضغطوا فيها على مر السنوات الفائتة، فهي استكمال لصرخات الشباب العربي من المحيط إلى خليجه، والتي انفجرت غضباً وفرحاً في آن واحد في العام 2011. ربيع العرب الذي سحقه أصدقاؤه قبل خصومه، ولنا في التجربة السورية خير مثال باعتبارها الأقرب إلى لبنان والأكثر ارتباطاً. بحيث سحقت الثورة السورية بأياد إيرانية وعلى مرأى العالم والعرب بلا تقديم أي مساعدة حقيقة للشعب السوري من قبل أصدقائه.

وبفعل التدخل الإيراني العنيف إلى سوريا بعد العراق، أصبح البلدان يرتبطان بشكل مباشر وعميق بما يجري في لبنان، لذلك يبدو التكامل ملحوظاً في تحركات الشعبين العراقي واللبناني اللذين يتعرضان لما يشبه ما تعرّض له الشعب السوري، من تكالب أممي ومكائد نصب له لإعادة خنق أحلامه. خاصة بعد دخول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على خط الانتفاضتين العراقية واللبنانية عبر ادعاءاته المتكررة بأن ما يفعله اللبنانيون والعراقيون هو ثورة على السيطرة الإيرانية على بلديهما، وفي تصريح آخر يعتبر أن بلاده ستساعد اللبنانيين والعراقيين للخروج من قبضة الخامنئي.

بالتأكيد إن الخبث الأميركي يراد له أن ينعكس سلباً على انتفاضتي الشعبين في البلدين، وهو في أول تأثيراته سينعكس سلباً على المنتفضين، ويقدم خدمة جلية لإيران وحلفائها، خصوصاً أن الحشد الشعبي في العراق ورئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وحزب الله في لبنان، يعتبرون منذ اليوم الأول أن ما يجري هو مؤامرة أميركية، وموقف بومبيو يمنحهم فرصة ثمينة للاستثمار بمنطقهم هذا وتسويقه. إنها السياسة

لو فعلاً الإرادة الأميركية صادقة في التعاطف مع الشعوب العربية، لما لجأت إلى التصريحات والمواقف الرنانة التي تسيء إلى هذه التحركات

الأميركية ذاتها في الاعتداء على إرادات الشعوب بادعاءات حمايتها، منذ ادعاء مساندة الشعبين السوري والمصري وغيرهم، ما أدى إلى إدخال البلاد العربية كلها في حالات عقم سياسي أنتج مجدداً أنظمة عسكرية أو أغرق أخرى في بحور من الدماء.

لو فعلاً الإرادة الأميركية صادقة في التعاطف مع الشعوب العربية، لما لجأت إلى التصريحات والمواقف الرنانة التي تسيء إلى هذه التحركات، بينما تريد واشنطن الاستثمار بها في البازار السياسي المفتوح مع الإيرانيين، سعياً وراء الوصول إلى تفاهم جديد يقضي بتقاسم هذه المنطقة ومقدراتها، بين أنظمة عربية خاضعة وضعيفة تغيّب شعوبها وتقضي على كل فرص التقدم لديه، وبين إيران وإسرائيل. انطلاقاً من إبقاء وإرساء الاصطفاف المذهبي السني الشيعي، ليبقى الجميع بحاجة إلى واشنطن فيما حماية إسرائيل الإستراتيجية مؤمنة خصوصاً بعد تهجير سوريا من أهلها.

الخبث الأميركي ظاهر للعيان في التخلي عن الأكراد بعد المتاجرة بهم ومعهم، وفي التخلي عن تركيا، وقبلها عن السعودية في عدم الدفاع عنها أو مساعدتها لردّ الهجمات التي تعرضت لها. الغاية الأميركية من الدخول إلى ساحات ادعاء دعم الشعب العربي وتحديداً العراقي واللبناني، تهدف إلى توسيع إطار المبارزة مع إيران لإنجاز المبازرة معها.

وهنا لا بد من العودة إلى أحد أقرب المقربين من باراك أوباما وهو مستشاره للأمن القومي بن رودس، الذي أصدر كتاباً عن تجربته إلى جانب رئيسه الذي سلّم العالم العربي إلى إيران، إذ يتحدث عن الشغف الأوبامي والأميركي بالتجربة الإيرانية، وكشف عن الالتقاء الكامل بين واشنطن وطهران على ضرورة إنتاج تنظيمات إرهابية تجلّت بتنظيم داعش، وتوفير كل الدعم والتمويل له لسحق العراقيين والسوريين وتسليمهم على طبق من ذهب إلى إيران.

ويكشف بن رودس عن الالتقاء الإيراني الأميركي في العراق خاصة بعد انتخابات العام 2013، وانزعاج الإيرانيين من فوز إياد علاوي، ونسج مؤامرة لترئيس نوري المالكي للحكومة، ويقول بن رودس في كتابه: "إن المالكي هو من أعطى الأمر بفتح السجون لكي يهرب عملاء إيران من تنظيم القاعدة، الذين أسندت إليهم مهمة تأسيس داعش. وإن المالكي هو من أمر الجيش بالهروب من الموصل عمداً وترك العتاد العسكري، الذي تزيد قيمته على 20 مليار دولار. ويؤكد بن رودس أن أوباما كان على علم كامل بتحريك إيران لداعش، وكان يغض الطرف عن ذلك، وهدفه فقط إبرام اتفاق معها.

حكاية التحالف الطويل بين إيران والغرب لم تنته فصولاً، بدأت مع انتصار الثورة الإسلامية التي قضت على أي تقدم عربي، وأسست للتطرف في منطقة الشرق الأوسط، وإخراج العرب من وطنيتهم أو قوميتهم إلى جماعاتهم الطائفية والمذهبية، كنسخة مبررة لبقاء إسرائيل وحمايتها، بينما كل التدخل الأميركي الذي يدّعي مواجهة إيران، كانت نتائجه معاكسة، من تسليمها العراق إلى تسليمها سوريا بعد ادعاء مناصرة الشعب السوري في مطالبه، والآن تبقى الخشية ممن يدعي مناصرة الشعب اللبناني لإنهاء النفوذ الإيراني، فيكون ذلك مسوغاً لتسليم لبنان بالكامل إلى إيران، على قاعدة إجراء تفاهمات جديدة، تصب في الغاية الاستراتيجية التي يلتقي عليها الإيرانيون والأميركيون، وهي تدمير البنى العربية.